مذ كنت طفلاً وأنا أعايش صورته وصوته في برامج دينية وحوارات فقهية وفتاوى مجتمعية.. مازلت أتذكر برنامجه الرمضاني الذي كان يأتي في ساعة متأخرة من الليالي الرمضانية وتحديداً قبل المسلسل الديني والتاريخي الذي يعرضه تليفزيوننا الوطني قبل دخول عالم الفضائيات حلبة الفضاء والذي يستضيف فيه علماء يتحدثون عن الشأن الرمضاني كالزكاة والصوم والاعتكاف وليلة القدر وفضيلة العشر الأواخر من رمضان.. إلخ. صوت يفيض سلاسة وبساطة يحاكي جميع المشاهدين والمستمعين بلا تكلف ولا تقطع ولا شطط وقلب واسع وصدر رحب وسع الجميع وبلا استثناء شواهده كثيرة ومتعددة آخرها برنامجه الاذاعي الشهير (أولو العلم) إنه الوالد العلامة التقي النقي عماد الدنيا والآخرة أبوعبدالوهاب يحيى بن ناصر الدرة (رحمه الله). الجمعة قبل الماضية وتحديداً قبل الظهر كان يؤدي برنامجه الرائع «أولو العلم» يستمع إليه الجميع في البيوت والمحلات وأثناء قيادة السيارة، يشد الجميع برصانته وفهمه وسعة صدره وقلبه الواسع وهو يستقبل المكالمات الباحثة عن جواب صريح ثم يستفسر ويعد السؤال لضيفه في قالب جاهز من الفهم والعلم والدراية ولايتورع عن الإيضاح والبيان للسائل بلباقة نادرة.. إنه رجل استثنائي في زمن استثنائي. لكن الموت غافل الجميع وانقضّ قبل المغرب، ودرّتنا يستعد لوضوء صلاة مغرب يوم السبت 27 ربيع الأول 1431ه الموافق 13مارس 2010م فانتزع الروح الطاهرة وألحقها بركب الصالحين. كانت رسالة SMS والتي تلقيتها في التاسعة من مساء الليلة كفيلة بتركي جزءاً مفروغاً على ثلمة الاسلام الجديدة أردد: لا إله إلا الله، لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون.. وكنت لا أزال متشككاً فلربما كان غيره والأسماء تتشابه وبعد تأكدي بأن الخبر يحمل فاجعة العالم والأستاذ الكبير والمربي والمدرسة الكبرى كنت أردد: ها هي ثلمة جديدة في الاسلام لا تُسد. ياموت مهلاً فقد أقرحت القلوب وأدميت الأفئدة وأدمعت العيون، ياموت لقد تركت في القلب شجى وفي الحلق حشا وفي العين قذى، ياموت ماذا نقول ولا ارادة لنا ولاحول ولاقوة، فالارادة إرادة الله والحول حوله والقوة قوته ولانملك سوى إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبنا الله ونعم الوكيل. عالم يماني وكوكب دري: يعد العلامة يحيى الدرة أحد أبرز العلماء اليمنيين الذين حباهم الله تعالى وسيلة دعوة لا نظير لها ووهبهم أسلوب رسالة لاشبيه لها مما عجز الكثير من العلماء في مجاراته واكتساب مهارته الدعوية والتوعوية والارشادية والحوارية. كما كان عالماً مستنيراً استوعب روح الاسلام وجوهره وجسده تجسيداً كاملاً في حياته العلمية والعملية قولاً وفعلاً وسلوكاً بعيداً عن الشطح والنطح والتعسف والمكابرة يؤكد ذلك كل من عرفه وجالسه واستمع لبرنامجه الشهير (أولو العلم) الذي ملأه وأفاض عليه روح السماحة والسعة والتيسير حتى إنه كان يلطف أجواء الاجابة عندما يدرك قسوة في إجابة ضيفه مبدياً سماحة وسعة الاسلام في مسائل الفروع وهذا ما سيفتقده البرنامج إن كتب له الاستمرارية، فلن يحيط – في غالب ظني – أحد علماً بما أحاط به، لذا سيبقى خالداً في قلوب الجميع. بعد حياة حافلة بالعلم والتوجيه والافتاء والأمانة في حمل الرسالة وبعد أن تجاوز الثمانين عاماً غادر هذه الحياة الفانية إلى الحياة الباقية وفي صباح يوم الأحد 28ربيع الأول 1431ه الموافق 14مارس 2010م صُلي على جثمانه الطاهر بالجامع الكبير بصنعاء الذي كان قد غص بالمشيعين وحُمل على أكتاف الألوف الذين تقاطروا من كل صوب لوداعه. إنه موكب جنائزي مهيب بكل ماتعنيه الكلمة، إنه موكب من المواكب الخالدة في ذاكرة صنعاء حيث الكل أحباب وجماهير جاءوا رغبة ومحبة وحزناً وألماً، سيل هادر امتد من الجامع الكبير وضاق بهم الشارع الممتد من باب اليمن إلى خزيمة حيث المأوى الأخير لفقيدنا طيب الله ثراه، إنه امتحان لجماهيريته ومحبته ذكرني بموكب التشييع الذي حظي به شيخ القراء العلامة محمد حسين عامر قدس الله روحه. ووري الجثمان في الثرى وسط الذهول من صدمة الفاجعة محفوفاً بالتلاوات والابتهالات والرحمات والدعوات من كافة الحاضرين المحزونين بكل الأسى والألم. وفي الختام خالص العزاء وعظيم المواساة لكافة الأسرة الكريمة مخصوصة للنجل الأبر الأستاذ عبدالوهاب وللصهر الأغر الأستاذ عبدالقادر هلال ولكافة الأحباب والاقارب والجماهير التي ستفتقده صوتاً وصورة ولليمن قيادة وشعباً ولنا الاسوة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولانقول إلا ما يرضي الرب وإنا على فراقك يا درة اليمن لمحزونون» رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك الجنة آمين. * خطيب الجامع الكبير بروضة صنعاء