كثرت الدعاوى إلى التنوير في هذا الزمان وكل داع ٍ فهم التنوير على طريقته الخاصة فهذا تنوير إسلامي، وذلك تنوير علماني وآخر تنوير غربي ...الخ وكل فريق يرى أن (تنويره) هو التنوير الحضاري المناسب للامة بل ويسفّه من مشاريع التنوير الاخرى ويحط من قدرها لسبب أو لآخر ..كل هذا طرح تساؤلات عن حقيقة التنوير المطلوب الذي نحتاجه نحن العرب والمسلمين ... غلو النقل مصطلح التنوير مشتق من النور و الإنارة، والذي بلاشك يقود إلى الهداية في المجال الذي يتم تنويره ، فما المجال الذي نريد التنوير فيه ؟ اعتقد ان الإجابة عن هذا السؤال سيقودنا إلى نوعية التنوير المطلوب الذي نحن في حاجة له ؟! باستعراض لأحوالنا سنجد أننا في آخر ركب الأمم اليوم في مجالات التقدّم العمراني والإنساني أعني حياة الناس المادية فالعرب والمسلمون مازالوا مستهلكي مقتنيات الحضارة الغربية المادية والركود شمل نواحي الحياة الاقتصادية والإنتاجية - على وجه الخصوص - وغرقنا في (بيروقراطية) مفرطة وأصبحنا (أسواقا) لغيرنا و(توابع) لاذكر ولا وزن لنا في حضارة اليوم ، وحتى جوانب حياتنا الفكرية والثقافية هي الأخرى لحقت بسابقتها من (الانجرار) للنمط الخارجي دون الالتفات إلى (حيثيات) الخصوصية العربية والاسلامية .. إن الانبهار بحضارة (الآخر) المادية لم يقف عند المادية بل شمل ما لدى الآخر حتى الثقافية والفكرية مما جعل طائفة من مفكرينا ( المنبهرين) يرون ان التنوير هو في تطبيق النمط الغربي (بحذافيره) تماما والانقطاع - تمام الانقطاع - عن كل ما لدينا من (موروث) ثقافي وفكري؟ يقول عميد الادب العربي الدكتور طه حسين " يجب أن نأخذ بثقافة الغرب حلوها ومرها وخيرها وشرها"؟! هل نقل الانماط ( المعلّبة) الجاهزة يعد تنويراً ؟ دون مراعاة للخصوصية التي نتميّز بها كعرب ومسلمين؟ ولماذا الخلط بين التقدّم المادي للغرب والفكر الثقافي لديهم ؟ لماذا لم نسعَ لنقل التقدّم المادي الذي نحتاجه فعلا؟ بل تجاوزناه إلى ما لديهم من فكر ثقافي لدينا ما يساويه - إذا لم أقل خيراً منه - في شرقنا العربي المسلم ؟ وكان من الانصاف - حتى في التقليد - ان ننقل كل شيء ؟! بل يذهب بعض مفكرينا ( المدلّسين) إلى أن سبب التقدّم الحضاري الغربي هو في تطبيقهم لبعض المفاهيم التي نقلوها إلينا كالعلمانية والليبرالية والحداثة ...الخ(طبعاً على النمط الغربي) ويرون ان تطبيق مثل تلك (المعلّبات) الجاهزة هي السبيل لتقدمنا ؟! والداعية - في أغلبها - إلى الانقطاع عن تراثنا العربي و الإسلامي بل وعن ثوابتنا ؟!! رد فعل هذا (الغلو) في النقل سبّب رد فعل لدى طوائف منا فنادت إلى إحياء موروثنا الحضاري القديم وجعلت منه امراً(مقدّساً) لا يجوز المجادلة فيه أو مراجعته أو (غربلته) ؟! بل ونادت بالانقطاع - تمام الانقطاع - عن كل وافد من خارج الحدود - مهما كان - وان لدينا ما يكفينا ، وكان هذا هو التنوير من وجه نظرهم وترى ان (الركود) الحاصل في حياتنا المدنية هو سبب طبيعي لتخلينا عن تراثنا الحضاري ؟! وان العودة إلى الدين( بالمفهوم الموروث تمام) هو الحل الناجع لما نحن فيه وان الحلول(المستوردة) لن تصنع تنويراً؟! فهل التعامل مع مفهوم الدين (المعلّب)على هذا النمط - دون مراعاة لتغيّر الزمان والمكان ودون النظر لفقه الوقع المعاصر وما نحتاجه - هو الحل ؟ ..هذه الرؤى المختلفة التي تتفق حول شيء واحد هو التنوير لكنها اختلفت حول منطلقاتها وآلياتها التي عرضتها لهذا التنوير تجعل المتلقي في بلبلة وسؤال مهم ما هو التنوير المطلوب حقاً ؟ حيث ان كل فريق دلّل على وجهة نظره من خلال شواهد عديدة فاصحاب (التغريب)يرون ان التقدّم الحضاري الحالي للغرب أكبر دليل على صحة نظرتهم في حين يرى اصحاب التراث ان الماضي المشرق للأمة أكبر دليل على صحة نظرتهم فما هو الحل ؟ منهج الخصوصية من وجهة نظري أرى أن كل فريق منهما مصيب في جزئيات ومخطئ في جزئيات أخرى ؟! وحول التنوير الذي نحتاجه دعوني اقدّم هذه النقاط:- ان يراعي هذا التنوير (خصوصيتنا)الحضارية والمتمثلة في الإسلام ديناً وحضارة والعربية هوية وكل مشروع تنويري لا يراعي ذلك لن يُكتب له النجاح. ما لدى الآخرين من (مفاهيم) حول الثوابت أفرزتها ظروفهم التاريخية التي لاتشابه ظروفنا..لذلك لا داعي لتلك المفاهيم المستوردة اما مقومات الحياة المادية فتلك بغيتنا لنتخطّى (تخلفنا) المادي المريع. تراثنا الحضاري ينقسم إلى مقدّس حقيقي (تقديسه جاء من السماء وليس من الأرض) فهذا لاخلاف على تقديسه أما ما أفرزته (اجتهادات) البشر فيظل ضمن حدود البشرية من صواب أو خطأ. الإسلام كدين لم ولن يكون حجر عثرة أمام أي مشروع تنويري حقيقي بل على العكس كان الإسلام - وما يزال - هو المحرك الأول لحضارة شملت ثلثي الكرة الأرضية لاكثر من عشرة قرون فمشكلتنا ليست مع الإسلام بل مع الفهم الخاطئ والمنقوص والمغلوط للإسلام والذي يريد أن يقدّم نفسه كمشروع تنويري باسم الإسلام ؟! القوالب الجاهزة لاتصلح للتطبيق المباشر سواء من لدينا أو من لديهم لان لكل حضارة خصوصيتها والتي لاتراعيها تلك القوالب عند التطبيق فالاسلام المطبّق على أرض الجزيرة سيختلف تطبيقه على امريكا مثلا مع المحافظة على الثوابت العامة. التنوير المطلوب يجب أن ينتشل الأمة من ركودها المعاصر ويقدّم نظرات مستقبلية بعيدة المدى لمتغيرات الحياة المدنية ضمن ثوابت الأمة الخاصة بها كأمة عربية ومسلمة .. والله أعلم