الديمقراطية يشارك العالم الاحتفاء بهذا الرمز الإنساني الديمقراطي الحر بملف شارك فيه نخبة من الكتاب والمثقفين والسياسيين.. كرس نيلسون مانديلا حياته لكفاح الشعب الأفريقي وحارب هيمنة البيض دون أن يحارب البيض أنفسهم، فلم يناهض العنصرية بإذكاء الحقد والكراهية وإنما فرق بين البيض وبين النزعة العنصرية التي تحكمهم، رافعاً نموذج المجتمع الديمقراطي الحر، حيث الجميع يعطون فرصاً متعادلة ومنسجمة، وفي سبيل هذه الأهداف نذر مانديلا حياته وكرس نضاله. ولم يُغفل نيلسون مانديلا الأبعاد الاستشرافية في أسلوبه النضالي فقد أخذ في الاعتبار، ما يتطلبه مستقبل جنوب إفريقيا، كدولة حديثة لأمة متعددة الألوان و الأعراق، تمنح مواطنها فرصاً متكافئة، ضمنت مصلحة كلٍ من الضحية والجلاد السابق، مصلحة الحاكم والمحكوم، من خلال ميثاق يضمن حقوق السُود و لا يتناقض مع حقوق البيض، فكان من الطبيعي أن تنشغل وسائل الإعلام العالمية بأخباره مهما حاول البعد عن الأضواء، ولعل استضافة جنوب إفريقيا لمونديال 2010م قد أضاف للذكرى الثانية والتسعين لميلاد هذا الزعيم العالمي بُعداً جديداً، فنيلسون مانديلا الذي شغل وسائل الإعلام العالمية، في مختلف مراحل نضاله السياسي، استحوذت أخباره على اهتمام وسائل الإعلام بمناسبة ذكرى ميلاده، حيث ولد نيلسون مانديلا في قرية مخيرو في منطقة ترانسكي، على بعد حوالي 600 ميل جنوب جوهانسبرغ، في الثامن عشر من يوليو 1918م، واسمه الحقيقي روليهلاهلا، وقد أطلق عليه معلمه في المدرسة التبشيرية التي التحق بها، اسم نيلسون تيمناً بأسماء الزعماء والقادة الذي برزوا – حينها- في بريطانيا، ولم يكن الاسم الجديد وحده هو من وجه اهتمامات هذا الشاب نحو العمل السياسي، فمانديلا سليل أسرة توارثت المُلك على شعب التمبو، قبل سقوط جنوب إفريقيا في أيد البيض الذي قدموا من بريطانيا وهولندا وغيرها من الدول الأوروبية عقب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، إلا أنه - وإن تعاقب أجداده على حُكم جنوب إفريقيا – لم يكن كفاحه بغية استعادة المُلك المفقود، وإنما بدافع رفع المعاناة التي ولدتها العنصرية، الناجمة عن النظام الذي اتبعته حكومة بريتوريا العنصرية، ضد السكان الأصليين، ولعل مانديلا قد اكتسب توجهاته الإنسانية وحساسيته المفرطة تجاه معاناة البشر، من معلمه الأبيض في المدرسة التبشيرية، فالمحبة والسلام جزء من منظومة القيم الدينية، التي حظيت بعناية الأديان السماوية ومن بينها الدين المسيحي، ولا شك في أن دراسته للحقوق وللعلوم السياسية في المراحل التالية قد بلورت المعالم الرئيسية لشخصيته وحددت توجهاته، فبعد أن اشتغل بالمحاماة لفترة قصيرة سرعان ما انخرط في العمل السياسي، بهدف إيقاف الرغبة الجامحة لأرباب المال في رفع أسعار السلع والخدمات، وما لبث أن ذاع صيته في الأوساط الحزبية، و في الوقت الذي تأرجح فيه مانديلا بين الشيوعية والقومية، اقتفى تجربة جوهرلال نهرو السياسية، حتى تبلور لديه اتجاهه القومي المتميز بخلوه من الخشونة، وأثناء انخراطه في العمل الحزبي كناشط سياسي، تعرف مانديلا إلى الأعراق المختلفة في جنوب إفريقيا من غير السُود والبيض، وأبرزهم ذوو الأصول الأسيوية، كالهنود الذين صادق منهم أعلاماً وشارك في نشاطهم الاحتجاجي الذي تميز بالأسلوب السلمي، وفق منهج المهاتما غاندي، وإن اختلفت توجهات مانديلا عن الأسلوب السلمي البحت، في المراحل اللاحقة، مما أقض مضجع حكومة بريتوريا العنصرية ودفعها إلى اعتقاله ومحاكمته التي أفضت إلى الحكم بسجنه مدى الحياة، إلا أن حكومة بريتوريا أخطأت في توقعاتها، ففي السجن صار كفاح مانديلا مثار اهتمام العالم بأسره، وخصوصاً دوائر القرار السياسي في الغرب، فأصبح مانديلا رمزاً عالمياً لمناهضة التمييز العنصري والنضال من أجل الديمقراطية، وعلى الرغم من أن حكومة بريتوريا عرضت على مانديلا إطلاق سراحه في مقابل وقف المقاومة المسلحة، إلا أنه رفض العرض وظل في السجن حتى 11 فبراير 1990م، حيث تم إطلاق سراحه بعد 27 عاماً قضاها في السجن، فلم يرى النور خارج جدران السجن إلا بخروج مشروعه السياسي، الذي كرس حياته لأجله إلى حيز التطبيق، ولم يكن هذا النجاح الذي أبهر العالم سوى مدعاة للمزيد من التواضع ونكران الذات، حيث وعد مانديلا شعبه بالمزيد من التفاني في خدمته، مؤكداً بأن ما تحقق على يديه ليس سوى ثمرة للتضحيات البطولية المضنية التي خاضها الشعب في معاركه ضد التمييز العنصري، مجدداً عهده أمام الجماهير على وضع ما بقي من حياته في خدمتهم. وفي العاشر من مايو 1994م تكلل نضال مانديلا بتغيير نظام بريتوريا العنصري، وتم الإعلان عن ولادة عهدٍ جديد هو عهد الحرية بعد معاناة قاسية للسود ولغيرهم من الملونين في جنوب إفريقيا تحت وطأة النظام العنصري. ولم تقف دلالات هذا الحدث عند حدود جنوب إفريقيا، فقد أعاد إلى الملايين من أحرار العالم الإيمان بالعدالة و الثقة بنبل الروح الإنسانية وبإمكانية إقامة حياة مجيدة لا ينفرد بها طرف دون غيره، و كأن النجاح الذي تكللت به جهود مانديلا نجاح لشعوب العالم مجتمعة، الأمر الذي أحال جنوب أفريقيا من قاعدة عالمية لأيديولوجيا العنصرية والقهر العنصري إلى منارة للحرية ونموذج للديمقراطية، لتعود جنوب أفريقيا إلى أحضان الإنسانية، ليس بوصمها بالخروج عن القانون، بل باعتبارها نموذجاً للسلم والعدالة والكرامة الإنسانية، فقد تسلم نيلسون مانديلا الحكم في أول انتخابات ديمقراطية، مواصلاً مواجهة التحديات التي تقف في طريق السلم والرخاء والديمقراطية ونبذ العنصرية والمساواة بين الرجل والمرأة، فنجح في تخليص شعب جنوب إفريقيا من الفقر والحرمان والمعاناة والتمييز، بشكلٍ مسالم، مواصلاً الوفاء بالتعهدات التي قطعها على نفسه ببناء سلام عادل ودائم وشامل، من خلال ميثاق يقضي بأن يتمكن جميع مواطني جنوب أفريقيا بيضاً وسوداً وملونين من العيش بكرامة ودون خوف، ولتحقيق هذا الغرض، كان من مهام حكومة الوحدة الوطنية التي قادها، تحقيق المصالحة الوطنية وإصدار عفوٍ عام لجميع فئات الشعب ممن يمضون أحكاماً في السجن، وليس غريباً على مانديلا تسامحه مع هذه الفئات وهو الذي تسامح مع سجانه، فلم يقم بإلقائه في السجن أو محاكمته، بل أشركه في الحكم، بمنصب نائب الرئيس، إدراكاً منه بأن اليد الواحدة لا تصفق، وأن السود والبيض هما كجناحي طائرٍ بالنسبة لجنوب أفريقيا، لا يمكن لها التحليق في فضاء التقدم إلا بهما معاً، كما لا يمكن لأيٍ منهما تحقيق النجاح بمعزل عن الآخر، إيماناً منه بأن العدالة والسلام للجميع والخبز والملح والماء والعمل للجميع، وبعد مرحلة طويلة وشاقة من النضال في سبيل الحرية والديمقراطية، لم يمكث نيلسون مانديلا على كرسي الرئاسة سوى خمس سنوات، ففي السادس عشر من يونيو 1999م، تسلم تامبو ميبيكي السلطة من مانديلا، الذي لم يدع هذه المناسبة دون أن يُعبر عن سعادته البالغة لما تحقق لجنوب أفريقيا من مكسب سياسي، متمثل في التداول السلمي للسلطة، والحقيقة أن مانديلا بهذا العمل المنقطع النظير، قد نصَّب نفسه زعيماً روحياً، لجنوب إفريقيا وللأحرار العالم، ففي عالم مليء بالتشبث بالحكم أصبح مانديلا، بنموذجه الديمقراطي الذي صنعه لجنوب إفريقيا ملهماً لمختلف الشعوب والأمم، فلم يكف مانديلا، قبل وبعد توليه رئاسة بلاده، عن النضال ضد الفقر والبطالة والأمراض المستعصية وجميع أشكال الحرمان الاجتماعي، من خلال الوفاء بالالتزامات الديمقراطية وما تتضمنه من تحقيق حياة أفضل للجميع، إيماناً منه بأن لا شيء يحط من كرامة شخص أكثر من عدم قدرته على إيجاد عمل ملائم، و في رأيه أن الديمقراطية مطالبة بتقديم ثمرها للجميع، خصوصاً الفقراء والمهمشين وهم السواد الأعظم من الشعب، لذا ففي رأيه أن مفهوم المصلحة العامة يتم إفراغه من معناه ما لم يلامس احتياجات الفئات الأكثر بؤساً وحرماناً.