منذ أمد بعيد أتمنى أن أكتب حول الفيلسوف (إيراسموس) من روتردام، وهو من رواد الفلسفة الإنسانية، وكان تقياً. وهو في ثقافتنا العربية مجهول، والمجاهيل أكثر من رمال عالج عند قوم أميين، ودّعوا القراءة منذ أيام ابن خلدون، وتحولوا في عصر الفضائيات إلى إنسان الكهوف الذي يتعلم مشافهةً وبالصورة. وإيراسموس كان يتكلم كمن له سلطان، وهو كلام يشبه ما جاء في القرآن بلغة هولندية. والفلاسفة أولاد علات، أمهاتهم شتى وأبوهم واحد، وهم من الذين أنعم الله عليهم، يعيشون في غمرة سعادة لا توصف، وروح دهشة طفولية لا تفارقهم، واليوم ينفتح العالم كله على بعض استجابة لنداء إبراهيم الخليل، وحسب “مالك بن نبي” المفكر الجزائري فإن “ من يدخل العصر وهو غير محيط بإضافات المعرفة الإنسانية سوف ينال السخرية” بمعنى أن (الزهراوي) لو تقدم إلى مؤتمر في جراحة الأوعية الدموية، وتحدث عن طريقته في معالجة الأنورزما (أمهات الدم) فلربما اعتبر كلامه في أحسن الأحوال مسلياً، ولسوف يكون المستمعون بين مبتسم ومتضايق؛ ولكن لن يحمل أحد كلامه على محمل الجد. وفي زمن الزهراوي كانت معالجة أمهات الدم بالانتباه إلى عدم (بطها) أي ثقبها على حد كلامه كونها تنزف حتى الموت، ونصح بربطها بخيوط الحرير وهو كلام صحيح في وقته. ولكن تطور هذا اللون من الجراحة ووصل حالياً إلى مستوى (اللاجراحة)؛ فتعالج بدون فتح الجسم بثقب بسيط يدخل منه إلى المكان فيوضع شبك معلق بخطافات. ونحن هنا لسنا بصدد استعراض تاريخ الجراحة بل بصدد بحث العولمة. وإذا كان هذا الكلام يصلح للجراحة، فهو ينطبق على كتب التفسير، فلا يمكن إضاءة القرآن بآراء رجال عاشوا في القرن الثالث الهجري، كما لا يمكن فتح جمجمة مريض بأدوات فرعونية, وهذا ليس انتقاصاً من قدر ابن كثير، ولو بعث الرجل لفعل هذا, فهو في عصره كان رائداً، ولكن من يرد أن يبني ثقافة يجب أن يكون رائداً من روح العصر. ولا يمكن بناء ثقافة إسلامية معاصرة بتفسير ابن كثير, بل لابد من الإسراع بتشكيل ثقافة إسلامية معاصرة تعتمد العلوم الإنسانية المساعدة. وأنا أفكر منذ زمن بعيد للتفرغ لمشروع من هذا النوع في وضع تفسير يعتمد العلوم الإنسانية المساعدة، وكنت مع الأستاذ هشام علي حافظ على وشك البدء بالمشروع لولا أن خطفته يد الموت، كما فعلت مع أعزِّ إنسان على قلبي زوجتي ليلى سعيد, فتقطعت ذراعي ضربة واحدة. وابن تيمية كان متمرداً على أفكار عصره، وسابقاً لفكر زمانه، وضُرِب من أجل أفكاره، وطارت عمامته وهو يساق بالقوة من المنبر للتعزير، ولو بعث في أيامنا لضرب من جديد، هذه المرة على يد من ينشر كتبه ويعيد طباعتها. والأنبياء ضربوا واتهموا بالسحر والكذب والجنون والكهانة بنفس الآلية النفسية. والعولمة هي اتجاه القرآن، ونداء الأنبياء، ومصير الإنسانية، ونهاية الرحلة الأنثروبولوجية، وهي حركة الكون. وكل خطاب القرآن كان معنوناً للناس أو المؤمنين: يا بني آدم , يا أيها الناس, يا أيها الذين آمنوا, ولم يكن الخطاب قومياً أو عنصرياً أو حتى للذكور. واعتبر القرآن أن الله خلق الإنسان من ذكر وأنثى وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وعندما تحرك الإنسان الأول من شرق أفريقيا قبل 200 ألف سنة وهو الإنسان الثقافي، ولعله آدم المقصود، فوصل إلى الشرق الأوسط قبل 65 ألف سنة، وتابع سيره عبر أوروبا، وانتهى قبل 12 ألف سنة في الأمريكيتين. ورحلته هذه كانت على الأقدام، وكان التواصل مستمراً ومنقطعاً على شكل كوانتوم بشري، عندما كانت الوحدات الحضارية تنشأ، ولا تعرف عن بعضها شيئاً كما في حضارة الصين والإنكا. والعولمة حركة كونية مثل تساقط الورق في الخريف، واخضرار الأرض في الربيع، أو البرد في الشتاء. وكما في الرياضيات في علم (التفاضل والتكامل) فإن (البيولوجيا) تتكامل من خلال عمل ضفيرة من الأجهزة, كذلك يتكامل البشر في المجتمع من خلال تنوع الاختصاصات, وكذلك تتكامل المجتمعات فتنفتح على بعضها البعض. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.