الإعلام رسالة لا تحظى بتقدير واحترام إن لم تكن سامية وإنسانية.. ومن كان يؤمن أن أشد الفساد فتكاً بالأمم هو فساد الفكر والثقافة, ينبغي له التهيب من الإعلام لأنه الأداة الأولى لنشر ذلك اللون من الفساد الفتاك.. ومن كان بلده يواجه غزواً ثقافياً, أو أزمة هوية وطنية, أو تحدق به نذر فتنة مذهبية أو مناطقية, أو عنصرية فلابد أن يكون الأشد حزماً مع الإعلام, لأن الشرارة الواحدة منه كافية لإحراق دولة كاملة بشعبها وحضارتها وتاريخها. في أكثر من مناسبة أبديت إعجاباً بوزارة الإعلام الكويتية, وتعاطيها الجريء والمسئول مع الساحة الإعلامية الداخلية, واليوم أقف إجلالاً لقرارها الصادر أمس بإغلاق مكتب قناة "الجزيرة" وسحب تراخيص عمل مراسليها, لتنضم إلى طابور دول التصدي لمنابر الفتنة الذي يضم المملكة العربية السعودية, والعراق, والجزائر, والمغرب التي حسمت جميعاً أمرها مع قناة "الجزيرة" وعملت بالمثل القائل: (الباب الذي تجي منه الريح أغلقه واستريح)!. وكم يحزّ في نفسي أن اليمن ظلت خارج الطابور رغم كل ما طالها من الجزيرة من ويلات وفتن, بعد أن جعلت القناة من نفسها ناطقاً بلسان مختلف قوى «الإرهاب» والتخريب والتمرد والانفصال في اليمن, إلى الدرجة التي نظم انفصاليو الخارج تظاهرة في لندن حاملين شعار الجزيرة استنكاراً لقيام وزارة الإعلام اليمنية بإغلاق مؤقت لمكتب القناة الذي يعدونه حامل لواء الدعوات التشطيرية لليمن..!. فالاستراتيجية التي تعمل بها "الجزيرة" لا تمتّ بأي صلة إلى المهنية الإعلامية بقدر ما تعمل بأسلوب الأحزاب الجهادية التي تقوم على مبدأ (التثوير).., وفي كثير من الأحيان تعمل على تهويل الأحداث ومنح أي طرف معارض زخماً تعبوياً يأخذ بيده إلى غاياته حتى لو كانت فتنة مذهبية أو مشروعاً تشطيرياً.. وهو الأمر الذي يجرد رسالتها الإعلامية من القيم الإنسانية السامية التي يفترض أن تخدم بها البشرية لا تقودها إلى المهالك. وبتقديري الشخصي إن التنظيمات الإرهابية صنعت مجدها الإعلامي على منابر "الجزيرة" التي تنفرد بالترويج لقادة القاعدة, وفصائلها المنتشرة حول العالم, ولبياناتها وأطروحاتها ورسائلها, بل واستضافت الشخصيات المتطرفة التي تسيىء إلى رسالة الإسلام السمحة, وتظهره كدين قتل وترهيب. لو نظرنا إلى من تقدمهم "الجزيرة" بصفة محللين سياسيين مختصين بقضايا الإرهاب في اليمن سنجدهم جميعاً ممن لم تنبت شواربهم بعد, ولم يسعفهم عمرهم أو تأهيلهم الأكاديمي أو طول تجربتهم للحديث عن أي شأن يمني، غير أنهم يرددون ما تريد "الجزيرة" قوله في الوقت الذي تغرق اليمن بالمفكرين والمحللين السياسيين المحايدين من مختلف الانتماءات, وبوسعهم تشخيص الواقع أكثر بكثير من الشبان الذين تقدمهم "الجزيرة" للترويج إلى قوة القاعدة وانهيار الدولة, فيبعثون عناصرها من القبور!!. للأسف أن الحكومات العربية لا تستفيد من دروس الآخرين, ولا تسأل: لماذا طردت "الجزيرة" من العراق؟ ليرد عليها العراقيون برجالهم ونسائهم بأنها هي من أشعلت الفتنة المذهبية, وهي من ظلت كلما خمدت نيران الفتنة لجأت إلى أحد تجار الحروب والفتن ليطلق من على شاشتها شرارة جديدة تعيد الاحتراق. وكاد الأمر يتكرر في الجزائر والمغرب والكويت لولا أن هذه البلدان تداركت نفسها في الوقت المناسب وأنقذت شعوبها من ويلات قناة بلا هوية وطنية ولا قومية ولا دينية.. وإنما ظلت أول شاشة عربية يطل منها جنرالات الجيش الاسرائيلي للدفاع عن أنفسهم وتضليل الشارع العربي والإسلامي وتكذيب المنابر الفلسطينية.. وكذلك ظلت أول شاشة يطل منها زعماء القاعدة والإرهاب لتعبئة الناس على القتل والتدمير. والسؤال الذي يحيرني اليوم هو: لماذا تفضل اليمن البقاء متفرجة, فهل تنتظر رؤية الحرائق والدماء لتتأكد, أم أن أربع دول عربية مقاطعة لا تكفي للشهادة رغم أنها كافية لرجم زانية حتى الموت؟!.