مع أن صنّاع القرار يدركون مدى الحاجة اليمنية لبرامج الوعي الجماهيري، ويبذلون لأجله مئات ملايين الريالات سنوياً، إلا أن حسابات الجدوى ظلت هي الثقافة الغائبة من أجندة مبرمجي سياسات التوعية والتعبئة الوطنية، حتى آلت الأمور إلى أيدي الكثير من القوى الانتهازية التي تتخذ من الشعارات المرحلية تجارة رابحة. لقد استوقفني حديث الرئيس علي عبدالله صالح يوم الاثنين في جامعة عدن بما زخر من حقائق وأسرار حول الوحدة اليمنية، والتي لم يسبق لبعضها أن وثّق في كتاب، أو ورد في جريدة، ووجدت نفسي أتساءل: أين السياسيون ومؤسسات الثقافة والإعلام اليمنية، ومنظمات الوعي والتثقيف من تلك الأطروحات المسئولة التي حرّكت وجدان الشارع وأيقظت ضمائر الكثيرين من الغافلين بحقائقها الدامغة، وتعريتها لتجار الأزمات, لماذا وأنتم من يملك الحقائق تركتم رؤوس الأجيال كورقة فارغة يسطر عليها الفاسدون والمأزومون والمتربصون باليمن ما يحلو لهم من تضليل وكأنكم تعتقدون أنها مهمة الرئيس وليست وظيفتكم الأولى؟!. في الآونة الأخيرة اجتاحت حمّى الشعارات الوطنية الوحدوية أروقة المجتمع المدني وحتى المحافل الحكومية، وصارت عنواناً للابتزاز الرخيص، وأحياناً للشهرة أو (غسل الفساد) نظراً لتجاهل حسابات الجدوى، والقراءة الموضوعية للاحتياج الوطني النوعي من البرامج التوعوية، وطبيعة الآليات الترويجية المناسبة للساحة الشعبية اليمنية, لذلك عجزت كل المؤسسات القائمة عن بلوغ ربع التفاعل والتأثير الذي حصدته محاضرة الرئيس في جامعة عدن. أولاً ينبغي أن يعرف القائمون على التوعية أن الإنسان اليمني ليس بحاجة لمن يعلّمه حب الوطن، أو يتغزل بالوحدة اليمنية, لأن هذه الأمور متأصلة به فطرياً، وإنما هو بحاجة لمن يسلّحه بالحقائق حول قضاياه الوطنية المختلفة سواء كانت سياسية أم تنموية أو اجتماعية وغيرها، وبحسب التحدي المرحلي، فعندما تكون الوحدة موضع جدل فإن الحاجة تكون للتفاصيل وليس للمبدأ على غرار ما فعل الرئيس. كما أن من يتخذ من التوعية الوطنية شعاراً لا يقيم نشاطه في قاعة فندق خمسة نجوم، ولا أي صالات راقية مغلقة، لأن الذين يرتادون هذه الأماكن هم غير الفئة المستهدفة، فلا جدوى أن نضحك على أنفسنا ونسمي عملاً كهذا “توعية” فالتوعية الحقيقية هي في أوساط الناس في الحارات والقرى وأي تجمعات سكانية لم يعتد أهلها على ارتياد الفنادق والصالات. وأعتقد أن (الهيئة الوطنية للتوعية) كانت الأجدر بأن تكون الجهة اليمنية الوحيدة لهذه المهمة, لأنها تجاوزت الآليات التقليدية، وخرجت من طوق القاعات المغلقة إلى الشارع، فنشرت الملصقات والبوسترات في كل مكان، وأنتجت مقاطع فيديوية توعوية وفق أرقى الأساليب الإعلانية الحديثة.. ولو تهيأت لها الإمكانيات الكافية لأغنت اليمن عن فوضى المتاجرين بالشعارات الذين بات بعضهم مصدر إساءة إلى الوطن. إن مسئوليات التوعية والتثقيف لا يمكن أن تبقى بالعشوائية التي هي عليها اليوم، ولا يمكن أن نجعلها باب رزق للمتزلفين الذين تعوّدنا أن نراهم في مقدمة أي طابور ذي صلة بقضايا التثقيف، لأنهم لا يجيدون غير أن يغردوا خارج السرب ويرددوا كالببغاوات بضع شعارات طنانة حفظوها من الإعلام, فاليمن زاخر بالمثقفين والأكاديميين الشرفاء الذين هم الأجدر بوضع استراتيجية وطنية للتوعية ورسم آلياتها المناسبة. لا شك أن الاستثمار الأمثل هو الذي يضع لنفسه مسبقاً دراسة جدوى ليقيس عليها لاحقاً مدى نجاحه، وللأسف هذه الثقافة مازالت غائبة وتسبب لليمن تراكماً للهموم الوطنية وترحيلاً مزعجاً للمواريث السلبية.