في قلوب البشر مشاعر لا تشبه شفرات التكنولوجيا الرقمية ولا يمكن وصف كنهها أو حجمها أو عظمتها.. يعيش المرء أحياناً حالة جدبٍ قاسية قد تضطره إلى إغلاق حساب المشاعر وتصفير رصيده العاطفي في إطار بنك الوجدان الذي من الصعب عليه أن يحوّل الحسابات الجارية إلى حسابات توفير، ولهذا نبقى في حالة تلصص دائمة على مشاعرنا إثر لحظة انفصام الماضي مع الحاضر وهكذا نبقى مفلسين تماماً من فيض العطاء لأننا ببساطة لا نملكه أبداً، تلك المشاعر التي تجتاح وجداني وتأسرُ أحرفي بسلاسل الخوف وتنصب في وجهي مشنقة الصمت هي ما دفعني للكتابة عن أطفال الشوارع مراراً لأن الذل والحاجة المرسومة على تلك المُقل الظامئة لا يحتمله بشر ولا يمكن أن تصفه كلمات ولا تستطيع تصويره كاميرات الدنيا مجتمعة، هذا الشقاء والجوع الذي يفتت أوصالي كلما مررت على أرصفة المدينة أبحث عن متاع الدنيا فلا أرى أمامي إلا خبثها وصلفها وغدرها بالناس وإلباسهم ثوب الغفلة حتى ما عاد سكان الحي الواحد يعرفون بعضهم بعضاً في كثير من الأحيان أحب أن أشبع رغبة البحث عن تفاصيل جديدة تميز هذا العالم الرتيب من حولي فلا أجد إلا خطوطاً حمراء عريضة تزيد إحساسي بالألم وتخدش احترامي لمجتمعي وتحيل أحلامي أوهاماً بالنسبة لهذا الطفل الحدث، أو ذلك الطفل العامل، أو اليتيم الذي تلبستهُ نظرة المجتمع الحقيرة فملأت قلبه بالوحدة وصادرت حقه في الحياة ضمن مجموعة واحدة وحتى “قطيع واحد” واعذروني إن فلت زمام قلمي وفقدت أناقة الكلمات فجأة ودون شعورٍ مني إذ لم يعد الأمر سهلاً ولم تعد الحلول المطروحة على طاولات المنظمات الداعمة لمنظمات المجتمع المدني فاعلة أو صادقة بما يكفي لتحقيق إنجاز واحد، وبينما انشغل الجميع بمسألة الزواج المبكر، تناسى أصحاب الحاجة من عناهم بالطلب وأصبح أطفال الشوارع أكثر حزناً وسوءاً, إذ لم يجدوا من يخفف من معاناتهم، فمن يأبه لهؤلاء إن هتك الليل عبر خفافيشه البشرية ستر أحدهم، أو عضتهُ أفعى الجوع ونفثت سمّها عبر أوصاله، أو تغشاهُ صقيع الشتاء فهزّ نخاع عظمه، ماذا لو راودهُ تجار المخدرات أو السلاح أو الأعضاء البشرية وسقط فريسة بين أيديهم مقابل ما يستر الجسد ويبلل جفاف الشفاه ويملأ تجويف البطن الخاوي ويرسل ذرات الحياة في شرايين جافة أثناها الجوع والبرد والألم والضياع، من يشتري هؤلاء بأطنان من فيض الرحمن؟!.. ومن يضيء شمعة الإنسانية في طريق مظلمة مليئة بالأشواك؟ ومن يجودُ بفكرة تلملمُ هذه الأشلاء المتحركة من على الأرصفة وأمام الأبواب الموصدة ودون نوافذ مقفلة؟! من يمارسُ إنسانيتهُ ولو لمرة واحدة فقط ثم يعودُ بعدها حيواناً كما عاش منذ زمن؟.. ألا تشعرون بالأسى وأنتم خلف زجاج سيارتكم تعبثون بجوارحكم المترفة وسواكم من الأطفال في عمر أبنائكم يجوبون شوارع المدينة، يقلبون ضجيجها ترانيم جائعة، يغمسون أيديهم في براميل القمامة ليقتاتوا فضلاتكم المتعفنة!!! إلى متى يعاني هؤلاء؟ أين هي المشكلة؟ هل هي فينا؟ فيهم؟ في المقادير المكتوبة في أعلى سماء؟! أم في مشاعرنا المتبلدة والمقبورة في سابع أرض هل تدرون أنتم ؟ إذا لم نعلم أين تكمن المشكلة تماماً فمن ينقذ هؤلاء الأطفال الذين يعيشون بلا أمنيات؟!