ما أن يذكر اسم البُن في بلد إلا وتحضر الأذهان صورة اليمن، وما أن يأتي ذكر اليمن إلا وتتحسس الأنوف نكهة البُن اليمني، لكن ذلك قد يصبح بعد سنوات قليلة محض حكايا نقصّها للأجيال بفضل تخبط الجهات المعنية بالاقتصاد الزراعي، والتي ما ان فرغت من ضرب زراعة القطن وتحويل حقوله إلى مزارع (تمباك) حتى أصابت زراعة البُن بمقتل ينذر بتحويل حقوله إلى مزارع قات، كي لا يأتي ذكر اليمن في بلد إلا وتحضر صورة (القات والمداعة)!!. ففي نفس الفترة التي دعا فيها وزير الزراعة السعودي مواطنيه إلى التوقف عن غرس النخيل حفاظاً على أسعار التمر، أطلقت الجهات المختصة في اليمن أيدي التجار لإغراق الأسواق بالبُن الأثيوبي، الذي سبّب انهياراً تاريخياً لأسعار البُن اليمني، بحيث أصبح المزارعون لا يرون جدوى من مواصلة زراعة أشجار البُن، وبدأوا التفكير بالتحول مجدداً إلى زراعة القات المربحة!!. ومما زاد الوضع سوءاً هو قيام بعض التجار بخلط البُن الأثيوبي الرخيص بالبُن اليمني وتصديره إلى الأسواق الخارجية على أنه يمني رغم أن النكهة الغالبة عليه أثيوبية.. وهو ما يعني طمس الهوية اليمنية من أشهر منتجاتها الزراعية، وقد يترتب على ذلك عزوف الخارج عن شرائه. ولعل هذا التوجه يزداد غموضاً من حيث مسوغاته حين نعلم أنه جاء متزامناً مع احتضان صنعاء لأول مؤتمر عالمي للبُن ومهرجان للتذوق افتتحه معالي رئيس الوزراء مطلع ديسمبر المنصرم، وشارك فيه خبراء وباحثون من مختلف دول العالم.. ويبدو أن عام 2010م كان شؤماً على القطاع الزراعي اليمني, فالبُن لم يكن ضحيته الوحيدة بل القطن أيضاً تعرض لنكبة قصمت ظهور مزارعيه جراء السياسات المتخبطة من قبل الجهات المعنية التي ربما مازالت تتجاهل معنى أن يوصف القطن (بالذهب الأبيض) وأنه المحصول الأكثر استقطاباً للأيدي العاملة، وأنه الأكثر جنياً للأرباح على مستوى كل المحاصيل الزراعية الأخرى. فعلى مدار أربعة مواسم متعاقبة حرم المزارعون من حق الحصول على قروض، وتقاعست جهات الاختصاص عن توسيع شبكات الري رغم وجود موازنات معتمدة لها.. كما رفضت معالجة أسعاره ورفعها لتتوافق مع الزيادات السعرية العالمية التي تسببت بها الأزمة المالية والقفزة التاريخية بأسعار المشتقات النفطية. فتم بيع القطن اليمني بأبخس الأثمان، وتدهورت أوضاع مزارعيه رغم الاحتجاجات المتواصلة لجمعيات القطن في الحديدة ولحج وأبين لم تتم معالجة المشكلة، فنجم عن ذلك تحول المزارعين إلى زراعة (التمباك) أي التبغ حتى بلغ التوسع بزراعته في وادي سهام إلى ما يقارب 80 % من المساحات التي كانت تزرع قطناً, وهو ما حرم آلاف الأيدي العاملة من فرصها في كسب الرزق حيث لا وجه للمقارنة بين احتياجات كل من القطن والتبغ من الأيدي العاملة. للأسف الشديد إن مبرمجي السياسات الزراعية اليمنية يضعون لأنفسهم (شماعة) يعلقون عليها تدهور الواقع الزراعي اليمني وهي (أزمة المياه) حتى صار الحديث عنها من التهويل أشبه بقصص (أم الصبيان) التي كانت أمهاتنا تخيفنا بها لننام وتبرد رؤوسهن من لغونا الذي لا يكمل. فهم أيضاً كلما ارتفعت الأصوات الساخطة قالوا (أزمة مياه) فيبتلع الجميع ألسنتهم.. ونحن لا ننكر شحة المياه, لكن أيضاً لا ننكر أنها كانت نتاج أعوام القحط الطويلة التي انتهت منذ أعوام, والحمد لله أن الكريم ومنذ أربعة أعوام وهو يفيض علينا بالغيث الذي لم نعرف له مثيلاً منذ طفولتنا. والمعروف أن الزراعة في اليمن موسمية تقترن بمواسم الأمطار ولا تتأثر كثيراً للدرجة المبالغ بها باستهلاك القات للمياه الجوفية، لأن تأثيره الأكبر على مياه الشرب وليس الري. إن البُن الأثيوبي ليس وحده الذي قصم ظهر المنتج الوطني, بل الأسواق تغرق بشتى أصناف الخضر والفواكه المستوردة, ولم يعد المزارع اليمني يجد لمحصوله مكاناً بينها رغم جودته وارتفاع قيمته الغذائية قياساً بالمستورد من المحميات الزجاجية. كما أن منشآت الصناعة الغذائية (التعليب) تفتقر إلى الحداثة وآليات التسويق التي تراعي مصلحة المزارع وتخلق توازناً سعرياً يشجع المزارع على المغامرة في التوسع بزراعته بعد ضمانة وجود قنوات تصريف للفائض دون إجحاف وانتهازية.. أما الدور الإرشادي فهو في أدنى مستوياته ويقترب إلى العدم. إذن عندما نتحدث عن احتمال نضوب الثروات النفطية، وخطط مكافحة الفقر، ونصف اليمن بالمجتمع الزراعي لابد من الرهان الآن على إعادة تأهيل القطاع الزراعي ولابد أن نسأل: أين سياسات حماية المنتجات الوطنية يا وزارة الزراعة إذا كنتم تستوردون البُن؟!.