أحيان كثيرة تداهمنا لحظة الغضب، وأخرى تنتابنا فيها رغبة بالغضب ونكتم الصراخ في الصدور.. فالحياة لا تطاوعنا على الدوام، وتعاكسنا في معظم أمانينا مهما اجتهدنا بينما تستقيم لمن لا يستحي.. معظمنا نعيش حياتنا بشق الأنفس، ونرغب بأن نغضب على حظنا العاثر، وإخفاقاتنا، وفقرنا وبؤسنا وجهلنا، وانتهاك إنسانيتنا، ونغضب حتى على أهلنا وأطفالنا، والأكثر من ذلك كله هو أن نغضب على أنفسنا لأننا لا نعرف كيف نغضب!! الغضب حاجة نفسية كالرغبة بالضحك أو البكاء التي لا قدرة للمرء على التحكم بها، لكن مشكلتنا أننا لم نجد من يعلّمنا فنون الغضب، فكلنا تربينا في بيوت حين يغضب من فيها يفقدون عقولهم ورباطة جأشهم وينفجرون صراخاً ولعناً وشتماً، ويهشّمون ما يقع تحت أيديهم، ويفرغون حمم غضبهم بضرب مبرح، فإذا فرغوا انزووا في ركن يعضون أصابع الندم ويتأسون على كل من جرّموهم في لحظات الغضب. أغلبنا حين يكتم رغبة الغضب أمام رب عمله فإنه يفرغ انفعالاته لاحقاً بوجه المراجع الذي لا حول ولا قوة له، أو حين يعود إلى البيت بوجه زوجته وأطفاله أو أي شخص ضعيف لا يقوى على رد حماقاته.. أما حين نغضب من الدولة فإن ردود فعلنا باهظة التكلفة، لأننا تعودنا أن نثأر لأنفسنا من إنجازاتها، فنخرج إلى الشوارع نخرّب كل ما يقع تحت أيدينا، ونحرق المؤسسات وننهب الممتلكات ونهشم حتى السيارات المارة.. ونلعن ونشتم الصغير والكبير. لحظة الغضب قد تتحول إلى فعل متمرد طالما يفتقر المرء لطول الصبر وثقافة شفافة تحتوي الموقف وتهوّن الأمور ولا تعقدها، وتتعاطى مع الآخرين بروح التسامح.. ولذلك نجد الناس الحكماء يستلهمون ردود فعلهم من قوله تعالى: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» فيرددون في سرائرهم بعض الآيات التي تُسكن غضبهم، أو من الآية (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين). في الفترة الأخيرة شاعت عبارة (ثورة الغضب) كناية عن الاحتجاجات الشعبية ضد الأنظمة، ورغم أن حاملي هذا الشعار يؤطّرونه بممارسات ديمقراطية ذات صلة بالحقوق السياسية إلا أنه كان ترجم واقع الممارسة وليس الخطاب، لكون الغضب حالة انفعالية يتغيب فيها المنطق الرزين والسلوك السوي خلافاً للديمقراطية القائمة على التفاضل الحكيم والشفافية ومنطق التحاور.. ومن هنا وجدنا أن (ثورات الغضب) في كل البلدان التي عرفتها لا تعترف بحوار أو مبادرة وكلما قدمت لها الأنظمة تنازلات رفعت سقف مطالبها حتى تصل الاستحالة، ورفض كل عرض غير تغيير النظام. وقد يفضي ذلك اللون من الغضب إلى تغيير النظام، لكن من المستحيل وصوله لغايات وطنية ومصالح عامة، أو يؤدي إلى الإصلاحات المنشودة، لأنه غضب خالٍ من الحكمة والمنطق.. لذلك حدثت ردة شعبية في تونس ومصر أطاحت برئيس وزراء كل منهما بعد احتجاجات، وفتحت الأبواب لعواصف سياسية أخرى تكون عنوان عهود خالية من الاستقرار الوطني. في الوقت الذي كان متاحاً استغلال ضغط الشارع على النظام لإجباره على القيام بكثير من الإصلاحات المطلوبة والتي تعيد تأهيل الساحة وفق قواعد اللعبة الجماهيرية الجديدة. وكما ذكرت سابقاً أن أكثر شيء يستحق منا الغضب هو أننا لا نعرف كيف نغضب.. حيث إننا قادرون على تجميع حشود مليونية من أجل الغضب على الأنظمة لكن الضجيج المدوي لهذه الحشود وكل التخريب الذي صاحبه ليس إلا لتغيير رجل واحد كان بوسعه تحت الضغط الجماهيري تحقيق كل ما يصبو إليه المتظاهرون من إصلاحات وامتيازات بدلاً من البدء من الصفر في البحث عن البديل المناسب والانتظار لسنوات طويلة حتى يبدأ معالجة الأوضاع. كم يبدو الأمر مثيراً للغضب أن يعود ملايين المصريين الغاضبين إلى بيوتهم ببيان تنحي مبارك وكأنه كل المشكلة التي كانت تثير غضبهم.. ليت شعوبنا تكتم الغضب وتحتكم للعقول!!