ما هو أصل الأشياء من حولنا؟ هذه المواد التي تدركها حواسنا ما هو أصلها؟ أليس هذا السؤال البسيط هو نقطة الانطلاق للبحث عن خفايا الكون الذي نعيش فيه ؟! البشرية مرت بفترات أثارت مثل هذه التساؤلات التي بدأت ضمن مجال الفلسفة لكن بمرور الوقت تسلمت العلوم الطبيعية الدفة في إيجاد إجابة عنها، وبالعودة إلى التاريخ نجد ان حب الاستطلاع لدى اليونانيين القدامى أعطاهم المكانة الفريدة والأهلية لتقديم إجابات عن تساؤل ما هو أصل الأشياء أو لنقل محاولة الإجابة .. ففي مدينة ملطية Miletus القديمة انبثقت حضارة فكرية في القرن السادس قبل الميلاد فكان أول فلاسفتها هو طاليس (Thales (639 – 440 ق م) لقد كان الاعتقاد في زمن طاليس، أن العناصر التي يتكون منها الكون أربعة: الهواء والماء والنار والتراب. كل شيء محسوس، مكون من هذه العناصر الأربعة. لكن طاليس، كان يقول: أن هذه العناصر الأربعة، لابد أن يكون لها أصل واحد. فما هو يا ترى؟ فاقترح أن الماء هو الأصل الذي انبثقت منه كل الأشياء . إن اختيار الماء ليس غريباً لرجل يعيش في مدينة ساحلية فهو يرى دورة الماء أمامه من تبخر فتكثف فأمطار فسواقٍ وهكذا .. لكن الفيلسوف اناكسيمندر (610 – 546 ق م) Anaximander انتقد رأي طاليس هذا فما الداعي لاختيار الماء بالذات ؟ فالمادة الأصلية التي انبثقت منها المواد الأخرى لا يمكن ان تكون على صورة واحدة من صور المواد بل ينبغي أن تكون شيئاً مختلفاً عن المواد جميعها و سابقة للمواد جميعها لأن أشكال المواد المختلفة تتنازع فيما بينها بلا انقطاع وهذا التنازع سيجعل في النهاية للمادة الأساسية شكلاً محدداً عن باقي الأشكال الأخرى لذا يقترح اناكسيمندر أن المادة الأساسية لا محدودة ولا متناهية في الشكل بل ولا متعينة أطلق عليها اسم الابيرون Apeiron وكل المواد التي نعرفها انبثقت منها على حسب القوانين التي تعاقبت من حرارة ورطوبة وبرد وجفاف... يأتي بعده اناكسيمنس (585 - 525) ق.م Anascimenes الذي يعيدنا مرة أخرى إلى مادة واحدة أساسية وهي- من وجهة نظره- الهواء فكل أشكال المادة التي نعرفها تنشأ من الهواء – كما يقول- عن طريق التكاثف والتخلخل وجاءت هذه الآراء من ملاحظته للمطر الهاطل من الغيوم حيث يتم تكثيف الماء من البحار والماء يتحول إلى هواء - بخار – بواسطة التبخر وظن هذا الفيلسوف أن كثافة الهواء تقرر تحوله إلى مواد طبيعية أخرى.. الطريق إلى التجريد بعد هؤلاء يأتي الفيلسوف المعروف لدينا جميعاً وهو فيثاغورث(Pythagoras (500 – 572 ق م) – صاحب نظرية مربع الوتر في النسب المثلثية – الذي يحرف البحث عن أصل الأشياء من التنقيب عن مادة ملموسة ومدركة بالحواس إلى التجريد Abstract فهو يرى ان السبيل إلى معرفة المادة هو معرفة أوصافها لكن هذه الأوصاف ليست عامة في كل الأشياء ماعدا وصف واحد موجود في كل الأشياء وهو العدد فالعد أساس الكون وأساس مادته والتناغم أو التناسب بين هذه الأعداد بعضها إلى بعض هو الذي يضع التوازن والانسجام بين الأضداد لذلك فالفيثاغوريين أعطوا الأشياء في الكون دلالات الأعداد فكل شيء رمزوا له بعدد بل وقدسوا بعض تلك الأعداد مثل الرقم عشرة لأنه مجموع الأرقام الأولى الأربعة ؟! إن التجريد في التعامل مع الأشياء هو جوهر علم الرياضيات نفسه القائم عليه إلى أعلى درجة .. أما التناغم بين الأعداد قاد فيثاغورث إلى إدراك التناغم بين الأنغام الموسيقية... ومن تراكم ما سبق يأتي الفيلسوف هراقليطس Heraclites (475 – 535 ق م) ليجمع بين رأي اناكسيمندر عن المادة اللامحدودة التي تحوي الأضداد المتنازعة وبين التناغم عند فيثاغورث ليرى ان صراع الأضداد يكون وفق مقادير محسوبة فيكون هذا التناغم الخفي الذي لا نراه جوهر العالَم ، فهذا الصراع هو سبب بقاء العالَم على حاله ولذا يقول هذا الفيلسوف “ الحرب هي أم الأشياء” أي الصراع وليس الحرب العسكرية كما نفهم.. ومبدأ الصيرورة لديه جعلته يطلق تلك العبارة الشهيرة « انك لا تستطيع أن تنزل في النهر نفسه مرتين لأن مياهاً جديدة تتدفق عليك بلا انقطاع» فالنهر هو نفسه وليس نفسه في الوقت ذاته؟! بمعنى هو نفس النهر الذي نزلت فيه لكن بسبب تدفق (تغير) مياهه فهو ليس نفس النهر الأصلي.. وبناء على هذه الصيرورة فقد اختار هذا الفيلسوف النار لتكون أصل الأشياء لأنه يرى أن “ الأشياء جميعاً تتبادل مع النار والنار تتبادل مع الأشياء جميعاً كما تتبادل السلع مع الذهب والذهب مع السلع”.. رغم تشابهه مع الفلاسفة الأوائل في اختيار مادة واحدة لتكون أصل الأشياء إلا أنه يختلف عنهم بإضافة تناغم فيثاغورث كعلاقة الأشياء فيما بينها البين فتظل الأشياء على ما هي عليه رغم الصيرورة.. ومن بعده يأتي الفيلسوف بارمينيدس Parmenides (440 – 515 ق م) الذي دفع بالتجريد إلى أقصى درجة حيث أنكر كل أفكار التغير والتعدد لأن التغير أو التحرك يفترض انتقال المادة من مكان لآخر فارغ لكن كيف نتصور أو نفكر في ما لا وجود له (فارغ) ؟ وعلى هذا فلا يوجد مكان فارغ من المادة مما دفع هذا الفيلسوف إلى الاعتقاد أن المادة تملأ العالَم كله وعلى ذلك فيتصور العالَم كرة مادية مصمتة متناهية متجانسة بلا زمن ولا حركة ولا تغير ، والذي تقرره حواسنا من صفات للمادة هي زائلة ومتغيرة إلا شيء واحد هو الكينونة التي هي أصل الكون ولا نصل إليه بالحواس بل بالعقل المجرد وكل شيء خلافه هو وهم ؟! فأصبح العالَم عالمين ; عالَم الوهم وهو المواد المتغيرة التي تدركها حواسنا وعالَم الحقيقة وهي الجوهر أو الكينونة الثابتة الذي لا يتغير وغير قابل للانقسام ولا يُدرك إلا بالعقل المجرد ، وهذا ما نجد أثره عند أفلاطون في نظرية المُثل..وللحديث بقية.