هي نصيحة استفدتها من (رشيد بن عيسى) الجزائري وهو من تلامذة مالك بن نبي حين زارانا في دمشق عام 1971، وهي نصيحة يعرفها خبراء الكتب فيقلبون البضاعة و(يشمشمون) المحتويات مثل العطارين وأصحاب الخردوات، وهكذا فيقرأ الخبير الكتاب مقلوبا ليعرف مصادر الكتاب ومقدار التعب المبذول فيه وغزارة المادة وعمق المستوى وإثراء البحث، وهي ليست قاعدة معممة ولكنها تنفع عادة، فإذا رأى القارئ مئات المراجع وتنظيم الفهارس والتواريخ وأسماء الأعلام وما شابه عرف أن الكتاب قد بذل فيه الجهد وانصب فيه التعب والعرق والوقت واجتماع الخبراء ودقة المادة وعظم الصرف المالي. هذا على العموم مع ذلك قد يجتمع الإنسان بكتاب لا يدل على هذا؛ فإذا قلَّبه عرف أنه فيه مادة دسمة، وهو ما حصل معي في كتاب “العبودية المختارة” وهو كتاب وضعه شاب قبل أكثر من أربعة قرون (آتيين دي لابواسييه 1562)، والعكس بالعكس؛ فقد يعتمد الكاتب على وفرة المصادر، ولكن الكتاب أكاديمي جاف منقول من هنا وهناك وملطوش من هنا وهناك كما يقال؛ فالإبداع إذن شيء آخر غير ما نتكلم عليه. لذا عليك أيها الخبير حين تقصد معرضا للكتاب أن لا تحمل الكثير من الكتب بل اجلس براحة، وقلب الكتاب جيدا، واقرأه على نحو فوضوي في بعض الفصول كما حصل معي مع كتاب “33 استراتيجية في الحرب” لروبرت غرين الذي اجتمعت به بالصدفة عند صديقي المقاول المثقف جميل؛ فوقع نظري فورا على قصة العبد الحر دوجلاس الذي كان واحدا من كثيرين خلف حركة تحرير العبيد في أمريكا، ولكنني مع هذا حين غصت في الكتاب لم أجده في قوة كتابه الأول “القوة” وكيف تمسك بزمامها، الذي نشرته العبيكان بترجمة البيجرمي فقد نجحت فيه أيما نجاح. وهذا يقول لك إن من أبدع مرة لا يشترط أن يبدع دوما؛ فكتاب “القوة” أفضل بكثير من كتاب “استراتيجيات الحرب” حتى العنوان فهو خايب فاشل حين اعتبر أن أصل الأشياء الحرب، والسلام أساس والحرب شذوذ وجنون وجريمة وإفلاس أخلاقي ولا تحل المشاكل بل تزيدها تعقيدا، والحاكم الذي يبطش بشعبه، يرجع شعبه فيبطش به ولو بعد حين. ويذكرني موضوع الإبداع الذي لا يتكرر بنموذجين من فلمين الأول بعنوان (ياماكازي Yamakazi) والثاني فيلم (جوراسيك بارك Jurassic Park) الأول تظهر مجموعة من الشباب ممن يعتلون سطوح البنايات برشاقة أفضل من القرود فكان الفيلم بدعة وهم يحاولون مساعدة جمال الطفل مريض القلب، أما جزأه الثاني فانزلق إلى العنف وقد خاب من افترى. أما “جوراسيك بارك” فاعتمد فكرة إبداعية عن حفظ بقايا الكود الوراثي لديناصور في صمغ الراتنج فأمكن أخذ المادة الوراثية وزرعها في بويضة سحلية لينهض الديناصور من جديد، ولكن الجزء الثاني والثالث انزلق من جديد إلى العنف ولم يضف إبداعا فرأيته ولم أكرر خلاف الجزء الأول المبدع، وهذان الفيلمان يجب ضمهما إلى مجموعة الأفلام الراقية في المنزل. ولقد رأيت في مونتريال مقهى داخل مكتبة حيث يجلس الناس فيقلبون الكتاب ويقرؤون فإذا أعجبهم الكتاب اشتروه، وطبعا بيننا وبين هذه التقاليد مسافة، بل لقد رأيت من موضوع الكتب في ألمانيا العجب حيث يعرضون عليك إرسال الكتاب على نفقتهم للاطلاع فإذا لم يعجبك أعدت الكتاب لهم وعلى نفقتهم، ولأنهم على يقين من جودة الإخراج وعدم وجود أغلاط مطبعية وروعة التصوير فهم مرتاحون جدا أن الكتاب سيصل إلى درجة إعجاب القارئ فيحتفظ بالكتاب. ولعل القارئ يعجب لو قلت له إنني حاولت أكثر من مرة أن أعثر ولو على خطأ واحد في مجلة در شبيجل الألمانية التي تصلني كل أسبوع فلم أعثر، ومجلاتنا ومصادرنا كارثة في الأغلاط، وكتابي “في النقد الذاتي” الذي أصدرته دار الراية كان كارثة في الأغلاط فوجب تنبيه القارئ أن لا يقتني هذه النسخة وقد نبهت الدار بدون فائدة. والخلاصة التي نخلص بها أن من يريد صيد الدرر عليه بالغوص إلى الأعماق والتعب والتقليب وبذل المال بسخاء وأن يعشق الكتاب حيثما كان فهذا هو محراب الدخول إلى معرفة الله من آياته. ولذا كرر القرآن كثيرا كلمة الكتاب عن القرآن: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين وليس كما سبحت خيالات الشحرور الشامي سحَّار الكلمات والألفاظ؛ فقال إن الكتاب غير القرآن، وبذلك أصبحت عندنا نسختان من كتاب الله على ذمة الشحرور!.