الاتصالات تنفي شائعات مصادرة أرصدة المشتركين    رئيس بوروندي يستقبل قادة الرياضة الأفريقية    استبعاد لامين جمال من منتخب إسبانيا بعد اعلان برشلونة اصابته    مصر تخنق إثيوبيا دبلوماسياً من بوابة جيبوتي    أوقاف وإرشاد الحديدة تنظّم ندوة ثقافية إحياءً للذكرى السنوية للشهيد    الشاذلي يبحث عن شخصية داعمة لرئاسة نادي الشعلة    الذهب يحلق والنفط يتراجع... تباين في أداء أسواق السلع العالمية    مليشيا الحوثي الإرهابية تقتحم مقر هيئة طبية دولية بصنعاء وتحتجز موظفيها    منظمة:اختطاف د. العودي تصعيد خطير يستهدف ترويع المجتمع وإسكات الفكر الحر    جولف السعودية تفتح آفاقاً جديدة لتمكين المرأة في الرياضة والإعلام ببطولة أرامكو – شينزن    صلح قبلي ينهي قضية قتل بين آل سرحان وأهالي قرية الزور بمديرية الحداء    القبض على المتهمين بقتل القباطي في تعز    بدء الاقتراع في سادس انتخابات برلمانية بالعراق    لماذا يحتضن الجنوب شرعية شرعية احتلال    حكاية وادي زبيد (2): الأربعين المَطّارة ونظام "المِدَد" الأعرق    قوة "حماية الشركات"... انتقائية التفعيل تخدم "صفقات الظلام" وتُغيب العدالة!    تنبيه من طقس 20 فبراير    ريال مدريد يقرر بيع فينيسيوس جونيور    نائب وزير الشباب والرياضة يطلع على الترتيبات النهائية لانطلاق بطولة 30 نوفمبر للاتحاد العام لالتقاط الاوتاد على كأس الشهيد الغماري    لصوصية طيران اليمنية.. استنزاف دماء المغتربين (وثيقة)    إحباط عملية أوكرانية-بريطانية لاختطاف مقاتلة روسية من طراز «ميغ-31»    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    البروفيسور الترب يحضر مناقشة رسالة الماجستير للدارس مصطفى محمود    عدن في قلب وذكريات الملكة إليزابيث الثانية: زيارة خلدتها الذاكرة البريطانية والعربية    قواتنا المسلحة تواجه حرب من نوع آخر    قوة سلفية تنسحب من غرب لحج بعد خلاف مع قوة أخرى في المنطقة    رئيس تنفيذية انتقالي شبوة يدشن مهرجان شبوة الأول للعسل    لملس يناقش مع "اليونبس" سير عمل مشروع خط الخمسين ومعالجة طفح المجاري    الدراما السورية في «حظيرة» تركي آل الشيخ    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    صنعاء.. تعمّيم بإعادة التعامل مع شبكة تحويلات مالية بعد 3 أيام من إيقافها    الجدران تعرف أسماءنا    اليوم العالمي للمحاسبة: جامعة العلوم والتكنولوجيا تحتفل بالمحاسبين    قراءة تحليلية لنص "خصي العقول" ل"أحمد سيف حاشد"    قرارات حوثية تدمر التعليم.. استبعاد أكثر من ألف معلم من كشوفات نصف الراتب بالحديدة    تمرد إداري ومالي في المهرة يكشف ازدواج الولاءات داخل مجلس القيادة    أبين.. حادث سير مروع في طريق العرقوب    الأرصاد يتوقع أجواء باردة إلى شديدة البرودة على المرتفعات    وزارة الخدمة المدنية توقف مرتبات المتخلفين عن إجراءات المطابقة وتدعو لتصحيح الأوضاع    عالم أزهري يحذر: الطلاق ب"الفرانكو" غير معترف به شرعا    تسعة جرحى في حادث مروع بطريق عرقوب شقرة.. فواجع متكررة على الطريق القاتل    سؤال المعنى ...سؤال الحياة    بوادر معركة إيرادات بين حكومة بن بريك والسلطة المحلية بالمهرة    إحباط عملية تهريب أسلحة للحوثيين بمدينة نصاب    الدوري الاسباني: برشلونة يعود من ملعب سلتا فيغو بانتصار كبير ويقلص الفارق مع ريال مدريد    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    تيجان المجد    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آن أوان خلاصنا من العبودية
نشر في المصدر يوم 20 - 03 - 2011

"هناك دائماً الفقراء يمكننا منح المال لنصفهم في سبيل أن يقتلوا النصف الآخر منهم".. النتيجة غالباً ما تكون بحدوث تصفية جماعية.
العبارة المقوسة أعلاه وردت في أحد الأفلام الأمريكية التي تحكي فصولاً من عهود العنصرية والأرستقراطية المقيتة وما شابها من ظلم واستبداد عاشتها أمريكا أثناء مراحل تخلقها الأولى. وردت العبارة من فم أحد المسئولين الأغنياء في ولاية نيويورك بينما كان منهمكاً بلعبة تشبه لعبة "البلياردو" في الوقت الذي يرد فيه على أحد أقرانه بلا مبالاة بعد أن أعرب له عن قلقه من ثورة العنف التي بدأ بها الوافدون الدخلاء من أوروبا وبتحديد أكبر مجموعة كبيرة من الإيرلندين الذين انفجر صبرهم في نهاية الأمر بصورة عنيفة وبدءوا بتكسير شركات وأملاك الأغنياء واستهدافهم مجموعة منهم في منازلهم ومكاتبهم الرسمية.
إن كلمة الفقراء الواردة في العبارة قد لا نبدو أننا نضيف الكثير إذ نلفت عناية القارئ حتى غير الحصيف أنها في الوقت الراهن تقابل المعنى ذاته اليوم ولكن بشكل أكثر تطوراً يتسع ليشمل كل مواطن ينتمي إلى الطبقة المحكومة المتلقية للأوامر من ذوي المكانة والحظوة بل وحتى المسئولين أصحاب المقامات العليا في الدولة. هذه الشريحة المحكومة المستقبلة، غالباً ما تبدأ حدودها من عند مواطني الطبقة المتوسطة حتى ما دونها. ويكون الأمر أكثر نموذجية في الدول التي تكسو وجهها بقناع النظم الديمقراطية الحديثة كحاجة مفروضة فيما يظل بقية جسدها ذي الطبيعة الأصلية الاستبدادية بادياً للعيان.
هنا مثلاً في اليمن يمكننا أن نسقط الأمر بصورة أكثر وضوحاً على من يطلق عليهم "البلطجية" الذين يؤدون دور الجزء المتلقي للمال في سبيل التخلص من الجزء الآخر الذي يثور ضد الظلم والاستبداد. أما الصورة المخفية فتتمثل بأولئك الذين يساندون الديكتاتور تحت اعتبارات قد تختلف من شخص إلى آخر أو من مجموعة إلى أخرى، كاعتبار أن هناك مصلحة ما من بقائه أو ربما قد يتعلق الأمر بتعصب ربما يتجسد بالحزبية أو العصبوية المناطقية أو حتى -في أحايين أخرى- لدواعي الخوف والقلق من المجهول.
منتصف القرن السادس عشر كان هناك شاب فرنسي اسمه إتيين دي لابواسييه (1530م – 1562). كان ينتمي لعائلة ميسورة، ذكياً ومتعلماً حظى بفرصة لم يكن ليحظى بها إلا المحظوظون آنذاك بمواصلة دراسته الجامعية في القانون. وفي العام 1557 عمل قاضياً في البرلمان. بيد أنه شهد الظلم الملكي والارستقراطي الذي عاشته فرنسا حينئذ. فلجأ تحت جناح الظلام إلى كتابة مشاعره الثورية التي لم يكن ليستطيع الإفصاح عنها.
صاغ الفتى الكثير من المقالات والأشعار بيد أن أروع ما كتب في الاستعباد ربما حتى يومنا هذا جاء علي يديه تحت اسم "مقالة في العبودية المختارة". لم ينشرها وسلمها مع بقية أعماله لأحد أصدقائه الخلص. مات فنشرت بعض أعماله غير أن رائعته الفلسفية والسياسية والاجتماعية لم تنشر إلا بعد قرابة قرنيين من وفاته.
وحتى اليوم عد هذا النص من أهم ما يشتغل عليه المهتمون بالفلسفة السياسية والاجتماع كون الكثير من مضامينها لا تزال واقعاً تعيشه بعض الدول حتى يومنا هذا. إنها تفصل آلية الاستعباد والاستبداد: أسبابه أنواعه وسبل الخلاص منه. بل ترتكز فكرته الأساس للإجابة على السؤال: كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد؟ وما هي مآلات الاستبداد وعواقبه على الشعوب والطغاة؟
ولعل من المناسب هنا -ونحن نعيش في يمننا الجبيب مرحلة التحول الحقيقي- في طريق الخلاص من الاستبداد السياسي الجاثم على صدورنا منذ قرابة قرن كامل شمل فترات الحكم الأمامي وما تلاه من بعد الثورة وحتى اليوم إلا من مذاقات "حلوة" لكنها بسيطة لم يتسن لليمنيين التلذذ بها سوى لسنوات، أو بالأحرى أشهر معدودات، لا تكاد تبلغ مقامات الذكر إلا فقط للتحسر على انقضائها سريعاً.
• أنواع الطغاة ثلاثة
يفصل لابواسيه في رائعته الحكام الطغاة إلى ثلاثة أصناف: "البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب الشعب، والبعض الآخر بقوة السلاح، والبعض الثالث بالوراثة المحصورة في سلالتهم". وحين بدأ بالتفاصيل بدأ بالنوعين الأخيرين بشكل موجز بينما جعل ما يهمنا اليوم في المرتبة الأخيرة ليشبعه بالكثير من التفاصيل. لفطنته الشديدة كان يدرك أن هذا النوع هو الأكثر سوء من غيره، ليس بالمقارنة مع سابقيه إذ أنه هنا يعتبره الأهون، ولكن لكون الطاغية هنا سيمثل انقلابا على الحقيقة التعاقدية بينه وبين شعبه. وحتى ينجح في ذلك فسيتوجب عليه استخدام وسائل أكثر ذكاء من سابقيه.
يقول "فأما من أنبنى حقهم على الحرب فنعلم جيداً أنهم يسلكون كما نقول في أرض محتلة. وأما من ولدوا ملوكاً فهم عادة لا يفضلون قط لأنهم وقد ولدوا وأطعموا على صدر الطغيان يمتصون جبلة الطاغية وهم رضاع وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى تركة من العبيد ويتصرفون في شؤون المملكة كما يتصرفون في ميراثهم كل بحسب استعداده الغالب نحو البخل أو البذخ".
وأما ما نبحث عنه فجاء على النحو التالي: "أما من ولاه الشعب مقاليد الدولة فينبغي فيما يبدو أن يكون احتماله أهون. ولقد يكون الأمر كذلك على ما اعتقد لولا أنه ما إن يرى نفسه يرتقي مكاناً يعلو به الجميع وما إن يستغويه هذا الشيء الغريب المسمى بالعظمة حتى يعقد النية على ألا ينزاح من مكانه قط. وما أن يتلقف هؤلاء هذه الفكرة حتى نشهد شيئاً عجباً: نشهد إلى أي مدى يبزون سائر الطغاة في جميع أبواب الرذائل بل في قسوتهم دون أن يروا سبيلاً إلى تثبيت دعائم الاستبداد الجديد سوى مضاعفة الاستعباد وطرد فكرة الحرية عن أذهان رعاياهم حتى يعفو عليها النسيان رغم قرب حضورها في ذاكرتهم".
ولكأنها قصتنا اليوم بكافة تفاصيلها. ها نحن بعد أكثر من 30 عاماً ظل الرجل الذي كان يحلم بأسبوع واحد فقط في السلطة يسوسنا، ينقلنا خلال ست فترات انتخابية من فترة إلى أخرى، بينما هو يمارس الخديعة بطرق شتى. لازال حتى قبل أيام وهو يكرر على مسامعنا العبارات ذاتها: "السلطة مغرم وليست مغنم" "حكم اليمن يشبه الرقص على رؤؤس الثعابين" "السلطة سئمناها" "أنا لست مع بقاء الحكام إلى ما لانهاية"..الخ من العبارات التي قد تتبدل كلمة هنا أو هناك بيد أنها تحمل المعنى ذاته.
بل إن أزمتنا الحالية بكل تجلياتها وتفرعاتها ليس لها من تفسير أكثر منطقية سوى ما جاء به لابواسيه قبل ثلاث مائة وخمسين عاماً: ".. ما إن يرى نفسه يرتقي مكاناً يعلو به الجميع وما إن يستغويه هذا الشيء الغريب المسمى بالعظمة حتى يعقد النية على ألا ينزاح من مكانه قط"!
وعند كلمة الحق فقط يرى لابواسيه بعضاً من الاختلاف بين الطغاة إلا أنه في الواقع لا يرى "اختياراً بينهم لأن الطرق التي يستولون بها على زمام الحكم لا يكاد يختلف: فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله، والغزاة كأنه فريستهم، والوارثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكاً طبيعياً".
لكن: ما الذي يبقي على قوة الطاغية؟
إذن بشتى الطرق يعمل الطغاة على مضاعفة الاستعباد وطرد فكرة الحرية عن أذهان رعاياهم حتى يعفو عليها النسيان. هذا شأن الطغاة ولكن ما هو شأن الشعوب المستعبدة؟ هل تتجرع تلك الفكرة بفعل فوة الطاغية أم بفعل يديها؟ لماذا ينصاع الناس طواعية للاستعباد؟
للإجابة الشافية لدى لابواسيه أسباب كثيرة لشرحها في هذا الجانب. بيد أنه يركز كثيراً على بعضها كإرجاعه السبب الأول إلى العادة. بالنسبة لجيل الآباء فإن ما درج الإنسان عليه وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي. أما بالنسبة للأجيال الجديدة فالمناخ الذي يولدون فيه هو من يجعلهم يعتادون على ما وجدوا عليه آبائهم. فهم في نظره "يولدون رقيقاً وينشأون كذلك". لا يمكن لأحد أن يولد عبداً كما قد يفهم البعض خطأًً. فلابواسيه جاء بهذه النتيجة بعد شرح مفصل تحدث فيه حول فطرة الحرية وعشقها عند كل مولود يولد إلا أن المناخ الذي يصطدمون به والقائم على استكانة آبائهم للطاغية هو الذي يجعلهم يقبلون طواعية بالاسترقاق إذ يعتقدون أن الحياة يجب أن تسير على هذا النحو. وعليه فالقصد هنا أن الناس يولدون في مناخ استعبادي حيث تنتقل فيه العبودية التي نشأ عليها آباؤهم إليهم منذ ولادتهم.
ذلك مع أنه في موضع لاحق ينقلب على هذه الفكرة تحت انجذاب واضح لمبدأ الحرية والبحث عنها وبلوغها يوماً مهما كانت قوة الطاغية وهو ما سنتطرق إليه في سياق لاحق.
وأما السبب الآخر للقبول بالاستعباد فهو: "أن الناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء".. وفي هذا يقدم مجموعة أساليب درج عليها الطغاة لتحويل شعوبهم إلى هذا النوع من البشر لعل أهمها الإلهاء المتعمد بالملذات وكذا تجنب كل ما يمكنهم بلوغه من العلم والثقافة وتقريب المثقفين عبر إشباع غرائزهم الإنسانية بالمنصب والمال ويدخل بضمن هذا التخويف وغيره..الخ من الوسائل التي يستخدمها الطغاة في كل زمان ومكان.
وهؤلاء من يعمل على استدامة الطاغية.
بعد إسهاب شديد يتحول لابواسيه إلى الحديث المشبع بالغرابة والاستفسار حول بقاء واستدامة واقع غير سوي. فمن يقوم بهذا الدور؟ هنا سيتوجب علينا الاقتراب أكثر باتجاه المعنى الذي افتتحنا به هذه المقالة. يعتقد لابواسيه أنه لا "جموع الخيالة ولا فرق المشاة ولا قوة الأسلحة تحمي الطغاة". ومع أنه يجزم أن الأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى إلا أنه لا يتردد أن يلقي علينا بما يعتقد أنه "الحق عينه: (هم دوماً أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية، في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ إليهم أذن الطاغية يتقربون منه أو يقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلان ملذاته وقواد شهواته ومقاسميه فيما نَهَبَ. هؤلاء يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع لا بشروره وحدها بل بشروره وشرورهم. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إمَّا حكم الأقاليم وإما التصرف في الأموال ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم وليطيحوا هم بهم متى شاءوا تاركين إياهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاءً إلا في ظلهم، ولا بعداً عن طائلة القوانين وعقوباتها إلا عن طريقهم. ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك)!
يا له من بيان ساحر لواقعنا الذي لا يمكن إلا أن يكون هو ما تحدث عنه الفيلسوف الشاب قبل أربعمائة وخمسين ألف سنة!
هؤلاء هم أنفسهم اليوم من يقودون البلطجية. وهم من يصورون للطاغية قوته ويصوغون له تفاصيل ما يجب أن يقوم به. إنهم في واقع الأمر يخافون على مصالحهم لا عليه، مصالحهم التي يتكسبونها جاهاً ومسئولية وأموال عبره ومن وراء ظهره. هو يعرف ما يريدون وما يقومون به ومؤمناٍ أنهم بحاجة إليه لمواصلة تحقيق مصالحهم عبره يمنحهم كل ما ينشدون بل ويتغاضى عما يصنعون ورائه.
يواصل لابواسيه: "إن من أراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة وسعَهُ أن يرى لا ستة آلاف ولا مائة ألف بل أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل مثل جوبيتر إذ يجعله هوميروس يتفاخر بأنه لو شد سلسلته لجذب إليه الآلهة جميعاً. من هنا جاء تضخم مجلس الشيوخ في عهد يوليوس وجاء خلق المناصب الجديدة وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه، كل هذا يقيناً لا من أجل إصلاح العدالة بل أولاً وأخيراً من أجل أن تزيد سواعد الطاغية. خلاصة القول إذاً هي أن الطغاة تُجنى من ورائهم حظوات وتجنى مغانم ومكاسب، فإذا من ربحوا من الطغيان أو هكذا هُيَءَ إليهم يعدلون في النهاية من يؤثرون الحرية. فكما يقول الأطباء إن جسدنا لا يفسد جزء منه إلا إن انجذبت أمزجته إلى هذا الجزء الفاسد دون غيره، كذلك ما إن يعلن ملك عن استبداده بالحكم إلا التف حوله كل أسقاط الدولة وحثالتها، وما أعني بذلك حشد صغار اللصوص والموصومين الذين لا يملكون لبلد نفعاً ولا ضراً، بل أولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد يلتفون حوله ويعضدونه لينالوا نصيبهم من الغنيمة وليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير".
إنهم في يومنا يتوزعون بين الحزب والحكومة بوزاراتها ومختلف أجهزتها في المناصب القيادية في السلطة المحلية، في وسائل الإعلام، في مشيخة المنطقة أو المديرية، في قيادة الجيش، في وسائل التعليم، في الجامعات، في المدارس، في الاقتصاد، في توزيع المشاريع، في اللجان، وفي كل مكان في إطار السلطات الثلاث التي يستفرد بتوجيه دفتها الطاغية وحاشيته المستخلصة ومن يليهم! ولهذا يصبح الفساد أمراً حتمياً وتتسيد مجموعة على ثروات ومقدرات الوطن على حساب بقية أفراد الشعب.
ولكن هل يستديم الحال إلى ما لا نهاية؟
وللمزيد يقول في سياق متواصل من التوضيح عن سواعد الطاغية هؤلاء المستعبدين أساساً ومآلهم النهائي: "لكنهم يريدون العبودية ليجنوا من ورائها الأملاك: كما لو كان في مستطاعهم أن يغنموا شيئاً بينا هم لا يستطيعون أن يقولوا إنهم يملكون أنفسهم. يودون لو حازوا الأشياء، لو كأن للحيازة متسع في ظل الطاغية ويتناسون أنهم هم الذين أعطوه القوة على أن يسلب الجميع كل شيء دون أن يترك لأحد شيئاً يمكن القول إنه له.إنهم يرون أنه ما من شيء يعرض الناس لقسوته مثل الخير، وأنه لا جريمة نحوه تستحق الموت في نظره كحيازة ما يستقل به المرء عنه. إنهم يرون أنه لا يحب إلا الثروات ولا يكسر إلا الأثرياء. وهم مع هذا يسعون إليه سعيهم إلى الجزار كي يمثلوا بين يديه ملأى مكتنزين ولكي يستثيروا جشعه. هؤلاء المقربون قد كان أولى بهم ألا يتذكروا من غنموا من الطغاة كثيراً بل أولئك الذين بعد أن كدسوا المغانم بعض الوقت خسروا المغانم والحياة جميعاً، كان أولى بهم أن يتعظوا لا بالكثرة التي أثرت بل بالقلة التي استطاعت الاحتفاظ بما كسبت". ثم ينتقل لإشباعنا بقصص التاريخ التي لا تحيد أبداً عن تلك النتيجة.
مهما يكن الأمر فتلك الحقيقة الأخرى التي تغنينا بها صفحات التاريخ منذ الأزل وحتى اليوم حقيقة خالدة خلود الحياة تأتي لتنبأنا بالأمل المؤسس على الحكمة الشهيرة أنه: من المحال استدامة الحال.
وبصياغة لابواسيه: "ولكن الحقيقة هي أن السنين لا تجعل أبداً من الغبن حقاً وإنما تزيد الإساءة استفحالا، آجلاً أو عاجلاً يظهر أفراد ولدوا على استعداد أحسن يشعرون بوطأة الغل ولا يتمالكون عن هزه هزاً ولا يرضون أنفسهم أبداً على التبعية والخضوع".

إذن هو جيل شباب الثورة
تبدو تلك الحقيقة اليوم ناصعة البياض إذ تتمثل بظهور هؤلاء الشباب الذين ولدوا على استعداد أحسن شاعرين بوطأة الغل وهاهم اليوم يهزونه هزاً ولا يرضون أنفسهم أبداً على التبعية والخضوع. إنهم مهما حاول الطاغية خداعهم وثنيهم بل حتى قتلهم تستقر حناجرهم بصوت واحد: الشعب يريد إسقاط النظام.
ليس ثمة من الوسائل والأساليب والبلطجة والتهديد بالأمن والجيش بالتخويف بالعنف بل حتى بالقضاء على الامبراطورية برمتها.. كل ذلك يبدو في نظرهم من العهد القديم.
ومجدداً يعود لابواسيه حاملاً مشعل الأمل ليقول: "إن من المستيقن أن الطاغية لا يلقى الحب أبداً ولا هو يعرف الحب. فالصداقة اسم قدسي وجوهر طاهر، إنها لا تعرف لها محلاً إلا بين الأفاضل، ولا تؤخذ إلا بالتقدير المتبادل وليس بإغداق النعم. فالصديق إنما يأمن إلى الصديق لما يعرفه من استقامته، ضمانته هي استقامته وصدق طويته وثباته. فلا مكان للصداقة حيث القسوة وحيث الخيانة حيث الجور. فالأشرار إذا اجتمعوا تآمروا ولم يتزاملوا، لا حب يسود بينهم، وإنما الخشية، فما هم بأصدقاء بل هم متواطئون".
ولعل من المناسب أن نختتم هذه المقالة بما اختتمه الفيلسوف الشاب على أمل أن تحمل في طياتها العضة والعبرة والنصيحة لأولئك الذين مازالوا يشتغلون مع الطغاة سواء بإرادة منهم أم خشية أم حتى بجهل.
يقول لابواسيه: "فالذي يقع هو أن الشعب لا يتهم الطاغية أبداً بما يقاسيه وإنما ينسبه طواعية إلى من سيطروا عليه: هؤلاء تعرف أسماءهم الشعوبُ والأممُ ويعرفها العالم قاطبة حتى الفلاحون والأجراء يعرفونها ويصبون عليهم ألف قذيعة وألف شتيمة وألف سبة، كل أدعيتهم وأمانيهم تتجه ضدهم، كل ما يلحق بهم من البلايا والأوبئة والمجاعات يقع فيه اللوم عليهم، فإن تظاهروا أحياناً بتبجيلهم سبوهم معاً في قلوبهم ونفروا منهم كما لا ينفرون من الوحوش الكاسرة. هذا هو الشرف وهذا هو المجد اللذان ينالون جزاء على ما صنعوه تجاه الناس الذين لو ملك كل منهم جزءاً من أجسادهم لما شقا ولا رأى فيه نصف عزاء عن شقائه فإن أدركهم الموت لم يتوان من يجيء بعدهم عن أن يظهر بينهم ألف قلم يسود بمداده أسماء آكلي الشعوب هؤلاء ويمزق سمعتهم في ألف كتاب وحتى عظامهم ذاتها إذا جاز هذا التعبير يمرغها الوحل عقاباً لهم بعد مماتهم على فساد حياتهم.
وأخيراً يختتم بالقول: "لنتعلم إذاً. لنتعلم مرة أن نسلك سلوكاً حسناً. لنرفع أعيننا إلى السماء بدعوة من كرامتنا أو من محبة الفضيلة ذاتها، أو إذا أردنا الكلام عن علم فيقيناً بدعوة من محبة الله القادر على كل شيء وتبجيله ولهو الشاهد الذي لا يغفل عن أفعالنا والقاضي العادل في أخطائنا. أما فيما يتعلق بي فإني لأرى ولست بالمخدوع ما دام لا شيء أبعد عن الله وهو الغفور الرحيم من الطغيان أنه يدخر في الدار الأخرى للطغاة وشركائهم عقاباً من نوع خاص".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.