كل فلسفة القرآن تقوم على تحرير المسؤولية الفردية أن الحساب في الاخرة فردي يوم يفر المرء أمه وابيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً عله ينجيه. كلا لاوزر. الحاكم يمسك الأمة بواسطة الجيش ويتماسك الجيش بأمنه الخاص فيُقتَل من لايقتُل. وهي بدورها تصعد لتشكل في قمة الهرم الاجتماعي شريحة صغيرة متفاهمة لاتزيد عن أصابع اليدين عددا تعمل بهذه الآلية وهي التي تفطن لها منذ القرن السادس عشر للميلاد (أتيين دي لابواسييه) فسجلها في كتابه (العبودية المختارة) عام 1562 م فوصف (مجموعة الستة) التي تمسك بالبلد على النحو التالي: ( إنني اقترب الآن من نقطة هي التي يكمن فيها على ما أعتقد زنبلك السيادة وسرها ،ويكمن أساس الطغيان وعماده... إن من يظن أن الرمَّاحة والحرس وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطيء. فلا جموع الخيالة ولافرق المشاة ولاقوة الأسلحة تحمي الطغاة، والأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى ولكنه الحق عينه: هم دوماً أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله الى مقود العبودية. في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ اليهم إذن الطاغية يتقربون منه أو يقربهم اليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلان ملذاته وقواد شهواته ومقاسميه فيما نهب. هؤلاء الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، لابشروره وحدها بل بشروره وشرورهم. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما افسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع يوكل اليهم مناصب الدولة ويهبون إما حكم الأقاليم وإما التصرف في الأموال ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم وليطيحوا بهم متى شاؤوا، تاركين إياهم يرتكبون من السيئات مالايجعل لهم بقاء الا في ظلهم، ولابعداً عن طائلة القوانين وعقوباتها الا عن طريقهم. ما أطول سلسلة الاتباع بعد ذلك ! إن من اراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة لوسعه أن يرى لا ستة آلاف ولا مائة ألف بل أن يرى الملايين يربطهم الطاغية بهذا الحبل). أما نوعية الناس التي تلتف حول الطاغية فيجب أن تكون من معدن خاص يقول لابواسيييه:( ماأن يعلن حاكم عن استبداده بالحكم الا والتف حوله كل أسقاط البلاد وحثالتها وماأعني بذلك صغار اللصوص بل اولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد ليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير. هكذا الشأن بين اللصوص ومشاهير القراصنة: فريق يستكشف البلد وفريق يلاحق المسافرين. فريق يقف على مرقبة وفريق يختبيء. فريق يقتل وفريق يسلب). ويصف الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) هذا النموذج من الأعوان: (الجهة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم الى الفراش وكناس الشوارع. ولايكون كل صنف الا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً؛ لأن الاسافل لايهمهم جلب محبة الناس وإنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد. وهذه الفئة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج الى زيادة جيش العاملين له واحتاج الى الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين الذين لاأثر عندهم لدين أو وجدان واحتاج الى لحفظ النسبة بينهم بالطريقة المعكوسة وهي أن يكون أسفلهم طبعاً أعلاهم وظيفة وقربا. إن العقل والتاريخ يشهد أن الوزير الأعظم هو اللئيم الأعظم في الأمة). (حتى صار الفلاح التعيس يؤخذ للجندية وهو يبكي فلايكاد يلبس ثوبها الا ويتنمر على أمه وأبيه ولايميز بين أخ وعدو) ( وقد يوجد منهم من لايتنازل لقليل الرشوة ولكن لايوجد فيهم من يأبى اكثرهأ) (لايستصنعون الا الاسافل الأراذل ولايميلون لغير المتلمقين المنافقين) ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة لاعقلية وحقوق الأمم وسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأبية وبالإجمال إن المستبد يخاف من العلوم التي توسع العقول وتعرف الانسان ماهو الانسان؟ وماهي حقوقه؟ والمستبد يبغض العلم لنتائجه كما يبغضه لذاته. والعوام هم قوت المستبد وقوته يأسرهم فيتههلون لشوكته ويغصب أموالهم فيحمدونه على ابقاء الحياة، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وأذا اسرف باموالهم يقولون عنه كريم، واذا قتل ولم يمثل يعتبرونه رحيما) (من هم العوام ؟ هم اولئلك الذين اذا جهلوا خافوا واذا خافوا استسلموا) (يستدل على عراقة الأمة في الاستبداد أو الحرية باستنطاق لغتها وهل هي كثيرة ألفاظ التعظيم) (والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون العلماء وينكلون بهم فالسعيد من يتمكن من مهاجرة دياره وهذا سبب أن كل الانبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبللاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء) وهنا نذكر قصة شاوسسكو فبعد تصريحه عن شجرة البلوط والتين حين جمع الناس في صعيد واحد واستنفر الزبانية وسلَّح السيكوريتات ثم خرج على الناس يخطب في الجموع: أليس لي ملك رومانيا وهذا الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون واستخف قومه فأطاعوه. ثم حدثت المفاجأة عندما صفر أحد الحاضرين استهزاء فانكسر حاجز الخوف وكانت شرارة تحولت الى حريق كبير التهم كل نظام الطاغوت في ساعات فقطع دابر القوم الذين ظلموا وقيل الحمد لله رب العالمين.