يقول الخبير النفسي: “إذا كنت تنتمي إلى مجموعة صغيرة من النخبة الحاكمة والمحدودة العدد، وتريد السيطرة على مجموعة كبيرة من البشر، أوّل ما ستستنتجه هو أن السيطرة المباشرة (بالقوة أو التهديد) غير مجدية أبداً وليس لديك أي فرصة في فعل ذلك, فبالتالي الفرصة الوحيدة التي تمكنك من حكمهم هي السيطرة على عقولهم”. ويقصد بعبارة “السيطرة على العقول” التأثير والتحكّم بطريقة تفكير الشخص، بالإضافة إلى الأمور الذي يفكر بها. ويتم الاستعانة بوسائل غسيل الأدمغة في جميع المجتمعات تقريباً. وهذه الوسيلة عرفت منذ زمن سحيق، وأثبتت أنها وسيلة مجدية جداً في مساعدة السلطات على حكم الرعايا والسيطرة عليهم. أما اليوم فهي تستخدم بقوّة وعلى نطاق واسع، ذلك بفضل وسائل وتقنيات متطوّرة وفتاكة (كالتلفزيون). وأقدم وسيلة للسيطرة على العقول هي التحكّم بالمعلومات التي ينهل منها الشخص. أي عملية الحدّ من كمية المعلومات، وبالتالي الحدّ من مستوى التفكير، وهذا يؤدي إلى أفق ضيّق ومحدود، مما يعني أن الأمور التي وجب التفكير بها تصبح محدودة، فالنتيجة هي أن الخيارات تصبح محدودة. وأتذكر عند هذه النقطة ثلاث أفكار؛ واحدة لعالم النفس السلوكي “سكينر”، والثانية للفرنسي “آتيين دي لابواسيه” صاحب كتاب (العبودية المختارة) الذي نشرنا نصه مع مقالات شارحة بعنوان (فقد المناعة ضد الاستبداد) بواسطة دار نجيب الريس، والثالثة من أفكار مالك بن نبي حول فن إدارة الصراع عن طريق آلية المرآة العاكسة، وهي نفس الفكرة التي أشار إليها روبرت غرين في كتابه لعبة (القوة) ب 48 قاعدة. فأما “سكينر” فكان يشير بوضوح إلى الولادة بمساعدة القابلة (الداية) أي إمكانية الإيحاء للآخرين أن يفعلوا ما نريد ولكن بإرادتهم هم، وهم بذلك ينفذون إرادتنا ولكن من خلال إرادتهم، أشار إلى هذا في كتابه “ما بعد الحرية والكرامة” وهو كتاب جدير بالاطلاع نشرته دار عالم المعرفة الكويتية بعنوان “تكنولوجيا السلوك الإنساني”. أما الفرنسي “لابواسيه”، فقد أشار في كتابه “العبودية المختارة” أن أباطرة الرومان كانوا يشغلون (الموب أي الرعاع) بحفلات المصارعة ورمي الخبز عليهم وإشغالهم بالتوافه في حين يمتص الرومان دم المستعمرات. أما مالك بن نبي، فأشار في كتابه (شروط النهضة) إلى آلية المرآة العاكسة وكيفية تحطيم أو رفع الآخرين بآليات لا يدركها من تطبق عليهم آليات الصراع. ولكن الرجل رحمه الله وصل به الأمر إلى حد الهلوسة والوسوسة، فكان يضع عشرة أقفال على باب بيته، ويتخيل أن المخابرات يسلطون على دماغه تيارات خفية، وأن الاستعمار الفرنسي خلف الباب في كل مكان، حتى هرب إلى عبد الناصر في مصر خوف الاعتقال، فوقع بما أراد الهرب منه، كما يقول المثل “من المطر إلى المزراب”. إذاً كما فعلت الأنظمة الشمولية في العالم العربي وانتهت إلى بوار أفضل شيء للتلاعب بالعقول هو إشغال الرعايا بمسائل ثانوية غير مهمة. فيتناول الناس هذه المواضيع الجانبية ويشغلون معظم تفكيرهم بها. وهذا يمنعهم من رؤية الصورة الكبرى. وبما أن الناس عجزوا عن رؤية السيناريو بالكامل، تذهب بالتالي جهودهم الفكرية سدىً. ولكي يطبق المتحكمون قبضتهم على الرعايا بشكل كامل ومطلق، يعملون على صنع “واقع مزوّر” يبقى راسخاً في وعي الشعوب ويستمر عبر الأجيال المتعاقبة إلى أن يألفه البشر ويؤمنون به على أنه يمثّل الحقيقة”. وهذه اللعبة هي قمة الدهاء وبين أن تَستَغل وتُستَغَل شعرة فليس مثل الوعي نوراً.