يحزنني حين أصعد طائرةً امتلأت من الشرق فلا أرى إلا القليل ممن أمسك ورقة وقلماً وكتاباً مسطوراً في رق منشور. وقد يتعجب القارىء أن أروي له أن الكثير من الأفكار والكتب والأبحاث قرأتها في رحلاتي بين الشرق والغرب، ومن ذلك كما رويت فيما سبق كتاب العبودية المختارة للشاب الفرنساوي أتيين دي لابواسييه، الذي كتبه قبل أكثر من أربعة قرون (1562م) وهو يشرح آلية الطغيان والشبكة الجهنمية في التحكم بالبشر، وهو ما فتح الطريق أمامي لفهم تلك الفقرة الموجودة في سورة النمل عن الرهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وكانوا تسعة، مما أفهمني أن الإمساك برقبة مجتمع واستعباده يتم بشبكة جهنمية تمتد من قبضة من الرجال يمسك كل رجل مائة من الرجال، وهذا بدوره يمسك مائة وهكذا، وفهمت في نفس الوقت فك اللغز في مثل هذا الاستعصاء التاريخي وأن المشكلة متوقفة عند (الطاعة). أرسل لي أناس مضللون وهم يرون تحرك مظاهرات بأعداد غفيرة لرئيس ويغفلون عن قانون الشبكة الجهنمية، لذا وجب على المثقف الذي يريد أن يبقى على صلة مع الثقافة تنويع مصادر الغذاء العقلي تماماً كما في أنواع الأطعمة بين دسم وفواكه وخضار وما شابه، فللصبح كتاب وللمساء رواية أو بحث، وللطريق بحث ممتع مهم يستفيد منه في ساعات الانتظار الطويلة. ومن تجربتي الشخصية حين أركب الطائرة أنني لم أعد أشاهد الأفلام بل الأبحاث، ومثلاً فقد قرأت في رحلة القصة العجيبة التي كتبتها تشانغ يونج الصينية بعنوان “البجعات البرية” وهي تروي عن ثلاثة أجيال في الصين انتهاء بها ومن قبل جدتها وأمها الحزبية ومآل الحزب ورجالاته ونسائه. وفي مرة كنا نقترب من مطار دمشق الدولي قبل وداعي ديار البعث، فكنت أقرأ الفصل الدموي الأخير من سيرة جنكيزخان فتشاءمت وتذكرت قول النيهوم هل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟ وهو ما حصل معي، فقد كانت ورقة استدعاء أمني بانتظاري! وفي رحلة أخرى سهلة أنهيت كتاب تاريخ سليمان القانوني، فكانت سفرة ممتعة مع كتاب ممتع، وليست الأمور دوما هكذا. وفي سفري إلى كندا قرأت كتاب الكون لكارل ساجان وأعتبر الكتاب من أفضل ما كتب في الفلك، وكان الفصل الأول من الكتاب رائعاً في ذكر عشرة من أهم رجالات العلم في الإسكندرية. كذلك استفدت في سفرٍ آخر من القراءة عن كليوباترة، وأعجب ما يحدث معي هو ضرب من المفارقات في القراءات، وربما لم يمر شخص على المعنيين أن يحمل كتابه حيث ذهب، أعني بحثاً عن فلسفة التنوير لإيمانويل كانط باللغة الألمانية، ورجال الأمن الأردنيين يدققون في أوراقي. وخلاصة القول والنصيحة التي أضعها بين يدي القارئ أن يفعل ما تعلمته أنا من الألمان، كتابة ورقة بأهم ما يحمل معه المسافر للبلد الذي سيتوجه إليه، من أوراق ولقاحات طبية، وملابس ونظارات وما شابه. وأنا أضفت وعدد الكتب التي تحمل أن لا يزيد عن ثلاثة، فضلاً عن كتاب المذكرات، أما للرحلات فدفتر خاص لتسطير ما يراه في الرحلة من العجائب والغرائب، أو مذكراته الشخصية من مشاعر وتأملات. وفي هذا تحضرني قصة جميلة عن الإيطالي البحار (باجافيتا) الذي جاء لماجلان وقال له: لن تستفيد مني بشيء، ولكن أستطيع أن أخدمكم بقلمي فأسجل يوماً بيوم كرونولوجيا الرحلة، وهو ما حفظ إرث ماجلان.