قال تعالى في محكم كتابه الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم "مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةِ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرعُها في السَّماءِ تُؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بِإِذنِ ربِّها، وَيَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ للنّاسِ لَعَلم يَتَذكَّرون"صدق الله العظيم . الحديث عن الكتابة والكتب من ألذ وأعذب المواضيع إلى نفسي، ولا أدري وأنا أنوي الكتابة عن معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الجديدة، لماذا حضرت هذه الآيات القرآنية إلى نفسي؟ لعلّ الأمر يتعلق بالجذر، أو بالبذرة الأولى لهذا المعرض، التي وضعها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في تربة الشارقة الندية فانفلقت تحت أديمها وبدت تمد جذورها ثمّ من سقيا مطره المعرفي وتحت شمس عافيته أورقت، وعلى مدى ثلاثين عاماً من الرعاية والجهد المثابر أصبحت شجرة سامقة وارفة الظلال، وهاهي تعطي ثمارها (كل حين) وما أحلاها وما أشهاها من ثمار أبدعتها القلوب والعقول . قبل ثلاثين عاماً ونيف، أي عام ،1982 وبتوجيه من سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، نظمت دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة "معرض الشارقة للكتاب المعاصر"وخلال عامين توسعت مديات هذا المعرض وحراكه الثقافي وبدأ يستقطب دور النشر الكبيرة والصغيرة في أنحاء المعمورة حتى تغيرت التسمية في ما بعد لتكون "معرض الشارقة الدولي للكتاب«، ثم استمر التوسع والتنوع في الفعاليات عاماً بعد عام ليصبح هذا المعرض واحداً من أهم المعارض الدولية للكتاب ويتحول إلى كرنفال كبير له مراسيمه وطقوسه وله برامجه الكبيرة كماً ونوعاً فهو لا يقتصر على مشاركة مئات من دور النشر المحلية والعربية والعالمية، وبآلاف مؤلفة من الكتب والنشريات لمختلف أنواع المطبوعات الورقية والإلكترونية، ولكل أنواع المعارف ومستويات وأعمار القراء، بل هو تظاهرة ثقافية جندت لها دائرة الثقافة والإعلام كل الإمكانات والتسهيلات، والكتاب يستحق عرساً كهذا، ألم يقل المتنبي: أعزّ مكانٍ في الدّنا سرجُ سابِحٍ وخيرُ جليس في الزمانِ كتابُ ألم يشهد الجاحظ بقيمة الكتاب وأثره في النفس والعقل حين عدد صفاته، وما سأذكره هو بعض ما قاله لا كله "الكتاب نعم الذخر والعدّة، ونعم الجليس والقعدة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل«، ثم قال: "وبعد فما رأيت بستاناً يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء غيره، ومن لك بمؤنس لا ينام إلاّ بنومك ولا ينطق إلاّ بما تهوى، آمن من في الأرض وأكتم للسرِّ من صاحبِبِهِ، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة، ولا أعلمُ جاراً أبرَّ ولا رفيقاً أطوع، ولا معلماً أخضع . ."وظلَّ يعدد مناقب الكتاب ببلاغة عرف بها وفطانة هي من سماته . هذه العبارة يتداولها عشاق الكتاب من الأدباء وغير الأدباء فكلمة (إكسبو) أيام المعرض تعني اللقاء على أرض أكبر منتجع للكتب تحتضنه دولة الإمارات العربية المتحدة، و(إكسبو) هو مصطلح تجاري للمعارض، يطلق في الشارقة على مركز المعارض الذي يحمل هذا الاسم . لقد تأسس هذا المركز في عام 1977 قاطعاً مسيرة متنامية على صعيد المعارض، وفي عام 2002 حدثت نقلة نوعية في قطاع المؤتمرات والمعارض، حيث افتتح صاحب السمو حاكم الشارقة المقر الجديد للمركز قرب مركز التعاون في منطقة الخان، والذي يعد تحفة معمارية ونموذج للتصميم الهندسي الراقي، لأنه شُيِّد بمواصفات عالمية فريدة، وجهز بتقنية متطورة وأجهزة حديثة ويعمل وفق أرقى المعايير العالمية المتبعة في قطاع صناعة المعارض . واختيار مكان كهذا لإقامة فعاليات المعرض هو قيمة مضافة لطقوس الاحتفاء بالكتاب، فدور النشر تجد الأمكنة المناسبة اللائقة لعرض كتبها ونتاجاتها الثقافية الأخرى، وهناك قاعات عديدة للنشاطات الثقافية المصاحبة مقسمة ومرمزة وهناك أدلة توضح مكان أي دار نشر وأي نشاط، وخصصت أماكن لملاعب الأطفال وتساليهم نوعاً من استهواء للأسر كي تبدأ تدريب أطفالها على ارتياد معارض الكتب، وتشجعهم على القراءة والمطالعة الخارجية . الشعراء والقصاصون والمثقفون يحيون أماسيهم ولكل اسم جمهوره الذي يحضر للتزود بما يشنف سمعه ويزيد معرفته . وفي المقاهي الموزعة في أنحاء المعرض يجد الرواد ما يريحهم بعد عناء التجوال من طعام خفيف ومشروبات أهمها الشاي والقهوة، ويلتقي زوار المعرض من كل حدب وصوب ويتناقلون أخبارهم وأخبار الثقافة والأدب وأهم ما اقتنوه من معروضات الكتب . وبين الفينة والأخرى ترى حشداً هنا أو حشداً هناك، شاعراً أو روائياً في حفل توقيع كتابه، زمن لا يتكرر إلا كل عام وفي إكسبو، إكسبو حيث نلتقي وحيث معرض الشارقة الدولي للكتاب . في حب القراءة والكتاب يقول القاضي الجرجاني: وما تطعمتُ لذّةَ العيش حتى صرت للبيت والكتاب جليسا ليس شئٌ أعزّ عندي من العل مِ فلم أبتغي سواه سبيلا وكان الإمام الشافعي رحمه الله حينما يستغرق في العلم يهجر حتى أصحابه حتى إذا ما طرقوا عليه الباب قال لهم: "اغربوا عنّي، انشغالٌ بصلة تأخيرٌ عن حلّ مسألة". فللكتاب في قلب من يحبه مكان عزيز ومكانة سامية، وله حضور روحاني خاصةً للخبير الذي ذاق متعته وطار على أجنحته وتجوّل في رحابه، بعض عشّاق الكتاب يقترون على أنفسهم ليوفروا ثمنه، وبعضهم لا يتباهى بما لديه من رصيد مالي أو عقارات أو أولاد، يتباهى بعدد ما في مكتبته المنزلية من كتب لا ينال الغبار من أغلفتها لأنه دائم العلاقة معها . والكتب في زمن أجدادنا الأوائل ذخر وكنز يتنافسون على الحصول عليه وبعضهم كان يقطع آلاف الكيلومترات على دابة كي ينتقل من مصر لآخر بحثاً عن كتاب مشهور ذاع صيته في البلدان، أجل كانت العرب تجل الكتاب وتعطيه حقه من الاهتمام ورغم عدم وجود المدارس فإن الناس كانت تقرأ بدءاً من كتاب الله القرآن الكريم . ولشدة اعتزاز العرب بالكتب وعلو قيمتها عندهم فقد أطلقوا عليها تسميات الجواهر وكلنا قد سمع بكتاب "جواهر البلاغة"لأحمد الهاشمي، وكتاب "العقد الفريد"لابن عبد ربه الأندلسي، وكتاب "الدر المنثور"للسيوطي . ما من عظيم أو مبدعٍ أو ذي شأن في التاريخ إلاّ وكان قارئاً جيداً محباً للكتاب وأهلهِ جامعاً ما استطاع من الكتب التي ينهل منها معين معرفته ورفيق وحدته وجليس تأملاته . لو لم يكن صاحب السمو حاكم الشارقة قارئاً من الطراز الأول ومحباً للكتاب، وأديباً معطاء، له العديد من المسرحيات والمؤلفات الأخرى، مدركاً لأثر الكتاب في حياة الفرد والمجتمع لما أثرى الشارقة بالمكتبات والكتب وجعل من هذا المعرض تظاهرة عالمية يزدهي بها الكاتب والكتاب وخصص الجوائز لتحفيز الإبداع لدى المبدعين من الكتاب، ولما أوجد مشروع "ثقافة بلا حدود"ليدخل الكتاب كضوء الشمس إلى كل بيت في إمارته . يقول سموه: "نحن في الشارقة نقرأ، نريد المجتمع القارئ، وندعو إلى تعميق عادات القراءة بين فلذات الأكباد، بل وإلى توفير الكتب المناسبة للرجال والشباب وللمرأة، كتب للجميع ولهم فيها منافع، بهذا الفهم تكون واحات الكتب واحات نور لابد من تنميتها وتطويرها، وفي مجالاتها وساحاتها فليتنافس المتنافسون". هكذا هو المثل الأعلى، هو غارس البذرة وساقيها وراعيها فلم لا تعطي أُكلها كل حين . ولا غرابة فأي قائد أو مسؤول رعية إذا أراد لمجتمعه النهوض والرقي فإن أول خطوة يخطوها هي الاهتمام بالتعليم وجعل الكتاب متاحاً لكل أبناء المجتمع ويضع السبل والحوافز التي تشجع أبناءه على القراءة وهو يدرك أن مدخلات القراءة الرشيدة سواءً في العلوم أو الآداب لها مخرجات يترجمها التقدم العلمي والنهوض الأدبي وبالتالي الإبداع في شتى مجالات العمل والحياة . من هذه النظرة انطلقت الشارقة ومن خلالها جندت الآلاف من الشباب الواعي ليدخل معترك الثقافة ويعزز مختلف البرامج الثقافية على مستوى الإمارة، وحين أقول الشباب فإني أعني بهم الشباب من النساء والرجال، فبعد كل تلك السنين من التقدم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي أصبحت المرأة شريكة حيوية وفاعلة في مختلف نواحي الحياة ليس في الشارقة وحدها، بل في عموم دولة الإمارات العربية المتحدة وأخذت دورها في مواقع المسؤولية . أجل هنَّ قارئات وكاتبات لم تغب المرأة الشارقية عن جميع دورات معرض الشارقة للكتاب على مدى الثلاثين عاماً التي انقضت، فقد كان لها حضورها المثقف والمتألق في جميع نشاطات المعرض وازداد هذا الحضور والتألق عاماً بعد عام، حتى أصبحت المرأة جزءاً أساسياً من المشهد والحراك الثقافي للمعرض . تراها تستقبلك منذ خطواتك الأولى على أرض المعرض بابتسامتها التي تنم عن الرضا والشعوربالثقة مزينة رقبتها بشارة المعرض تقدم لك المشورة والمساعدة، ثم تراها متوزعة في جميع الأجنحة قارئة متابعة تتفحص الإصدارات وتسأل عما يهمها أو يهم أسرتها من الكتب، ثم تلقاها شاعرة تنشد قصائدها بكل عذوبة معبرة عن مكنوناتها الذاتية في ألق يتوزع بين الحياة والوطن والأمة، ثم تراها أكاديمية أو باحثة تلقي محاضرة في اختصاص يفيد الحاضرين، وقد تكون منهمكة بين باقات الورد توقع كتابها لمحبي أدبها شعراً أو قصصاً أو رواية . لقد أينع التورّد الثقافي للشارقة عن طاقات شعرية وقصصية وروائية ومسرحية عديدة من الرجال والنساء وكان لنون النسوة حضورها اللافت نتيجة استيعاب المرأة الشارقية لدورها الثقافي واستثمارها الإيجابي للدعم الذي تلقاه من قبل المؤسسات الثقافية والحراك الثقافي المتنامي . ولمعت أسماء من مختلف الأجيال مثل حمدة خميس وصالحة غابش وأسماء الزرعوني وفتحية النمر والهنوف محمد وخلود المعلا وفاطمة عبدالله وعائشة عبد الله وغيرهن من أديبات امتلكن حضوراً مميزاً وأصيلاً . ليس كمثل الكتاب تتقاطع عليه خطوط الثقافة والصناعة والتجارة، وهو ليس بعيداً عن الزراعة كما أسلفنا لأن الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . وعندما يشتغل المشتغلون على معرضٍ ضخمٍ كهذا لكم أن تتصوروا حجم الجهود التي تبذلها الجهة المنظمة من المسؤول الأول إلى أصغر موظف، ولكم أن تتصوروا أن هذه التظاهرة الدولية التي سترونها بأعلى درجات التنظيم والدقة والأناقة ليست بالعمل الهين على إمارة تسابق الدول الكبرى في إنجازاتها الثقافية . هل يكفي الشكر لمن سيحققون سعادتنا بالكتب التي ستأتينا محملة على الطائرات والبواخر والشاحنات، هل يكفي الشكر لعمال المطابع الذين يقضون ليلهم ساهرين حتى الصباح ليعدوا لنا الأدلة والخرائط التي تساعدنا على تجوالنا في المعرض؟ هل الشكر جهد المبدعين الذين أهدونا عصارات جهدهم وإبداعهم على مدى سنوات عمرهم لنغرف من مناهلها مقابل دراهم معدودات، وهل يكفي الشكر لوسائل الإعلام التي سخّرت كل طاقاتها منذ أسابيع كي يستكمل عرس الكتاب صداه المطلوب مبهراً بالأضواء التي تكشف جمالياته؟ وإذا كان الشكر قليلاً بحق كل هؤلاء من الجنود المعلومين والجنود المجهولين، فماذا نقول لقائد الجند ومرشدهم صاحب السمو حاكم الشارقة؟