لا تكاد تسمع خطيباً , أو محاضراً , إلا ويتكلم قبل دخول رمضان , أو في بداياته , عن أنه شهر القرآن , ولا يعوزوه البحث , والتقصي عن أدلةٍ , فكفاه قوله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }البقرة185 وهو شهر القرآن بحقٍ , ومصداق ذلك , كثرة التالين للقرآن في رمضان , ومحزبي آيات الله يتلونها صباحاً ومساءَ , وقل أن ترى مسلماً إلا وقد أخذ من القرآن في رمضانٍ بنصيب , حتى أولئك الذين يغيبون عن الصلوات والذكر والقرآن في غير رمضان , غير أن رمضان يكون بالنسبة لهم إستثناءً , ولكن الأعم الأغلب من الناس أنهم يقرأون الحرف , ولا يبحثون عن المعنى , بمعنى أن القراءة للقراءة فقط , وإن كان هذا هو مقصد سامي ونبيل مع القرآن الكريم لايتحقق مع غيره من الكتب إلا أنهم يتركون الأهم والأولى من قراءة القرآن , وهو التدبر والتفكر فيه , وقد أنزل الله القرآن من أجل تدبره , وتعقل معانيه , قال تعالى : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }ص29 , بل ودعا ربنا إلى تدبر كتابه وتعقله في غير ما آية من كتابه قال تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }النساء82 . وقال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }محمد24 . وعدد سبحانه التوجيه , ونوعه لتدبر القرآن , وأن المقصد الأسمى من قراءته هي التدبر والتفكر , وليس مجرد القراءة فقط , وقد تثمل ذلك الحبيب المصطفى r خير تمثَّل , حيث كان يقومُ بالآية الواحدة يرددها طيلة ليلته حتى أصبح , بل ويقول r في بعض آيات القرآن الكريم , ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها [ رواه الطحاوي في مشكل الاثار ] , ومن هذا المنطلق نهى النبي r عن قراءة القرآن في أقل من ثلاثة أيام , وعلل ذلك بأنَّ من قراءه في أقل من ثلاث لم يفقه , [ رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني ] وعلى ذلك سار العلماء سلفاً وخلفا , يولون تدبر القرآن والتفكر فيه أهميةً أكبر من كثرة التلاوة , ويؤسفني أننا نقرأ القرآن وعين كل واحدٍ منا على آخر الصفحة , وربما قلَّبَ بين كل فترةٍ وأخرى صفحات مصحفه أين وصل وكم بقي عليه من نهاية الجزء , وكأن لا همَّ له سوى أن يحصي عدد ما قرأ من أجزاءٍ وآياتٍ , لا كم فهم من أحكام , وكم عرف من عبرٍ , والى ما انتهى إليه من فكرٍ , وحصله من القرآن من علمٍ . وقد جمعني مجلسٌ مع أحد المشائخ الفضلاء , فقال : لقد تفكرتُ في قراءتي للقرآن وهل هي قراءة فهمٍ وتدبرٍ . قال : فقلت أختبر نفسي وكم هيَ الكلمات التي أقرؤها في المصحف وأنا لا أعرف معناها , قال : فأخذت قلماً , وبدأت أقراء المصحف , فكلما مررت بكلمة لا أعرف معناها , أو تحتاج مني إلى النظر في تفسيرها , جعلتُ عليها علامةً . قال : فما أنهيت المصحف إلا وفي دفتري ألف كلمة من القرآن تحتاج مني الرجوع إلى كتب التفسير , تعجبت حينها وهو على علمه وشهرته , كيف تغيب عنه كل هذه الكلمات , ولكن العجب هو كيف أننا نحن نقرأ ولا نتفطن أو نقف عند كل كلمةٍ تشكل علينا , فنرجع إلى أهل العلم , أو إلى كتبهم , وهكذا على كل مسلم أن يقرأ القرآن لا قراءة الحرف فقط , وإنما قراءة المعنى , وهي الأهم ولها أُنْزِلَ القرآن . ولا نكون كالذين قال الله عنهم : {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }البقرة78 . عند رجوعك إلى كتب اللغة ترى أن كلمة أماني تعني تلاوة , وهو تفسير معروف عند العرب , ومنه قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }الحج52 . قال العلماء : أي القى في تلاوته , ومنه قول الشاعر يرثي الخليفة الراشد , عثمان بن عفان t . تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر فإذا عدنا إلى الآية السابقة , فكيف يكون ومنهم اميون ثم لا يعلمون الكتاب الا أماني أي تلاوة فهل يستقيم أن تقول : فلان أمي ولكنه يقرأ , بالطبع لا والقرآن حقٌ ومعجزٌ , ولكنك إذا عرفت أن هناك أميةٌ هي أمية الحرف , وهي المعروفة من إطلاق كلمة أمي , وهناك أميةٌ هي اميةُ المعنى , وهي التي ينبغي علينا أن ندعوا إلى محوها وإستئصالها , وعندها يحق لنا أن نتلذذ بقراءة القرآن , والوقوف مع المعاني الرائعة والخلابة فيه , بل والطرب عند كل لفتةٍ من لفتات الكتاب العزيز , والذي خاطبنا ربنا فيه , ودعانا إليه , وعاب علينا الغفلة عن معانيه , بقوله تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} . عبدالله بن محمد النهيدي