لا خطر على شعبٍ عاطفي من خطاب غرامي تذيعه شابة تتقن البكاء والنحيب إذا كان كاتب السيناريست* هو صالح.. مذهل أن يعمل صالح على كشف مواهب جديدة مثل تلك المذيعة المثيرة للجدل, ويذهلك أكثر عندما ينتقل “سلمياً” من عالم السياسة إلى عالم الفن لكتابة سيناريوهات الأفلام والدراما، وهو واثق بأن الشعب الذي يصدق الأفلام الهندية سيصدق خطاب الوداع، وسينجرف مع دموع المذيعة الساذجة, ولعل صالح توقّع عقب تلاوة “خطبة الوداع” أن يسمع عن أخبار مريحة له ك “حالات انتحار بين المواطنين” أو خروج مظاهرات مليونية تطالبه بالتراجع عن الوداع “المفاجئ”، تشبه تلك المظاهرات التي أخرجها موالوه قسراً عقب مسرحية التنحي عن السلطة - الجزء الأول - وعرضتها الفضائية اليمنية قبيل انتخابات 2006، ولكن أحداً لم ينتحر هذه المرة ولم يخرج للتظاهر, واقتصر “الفعل” على بكاء مذيعة في الفضائية اليمنية, وكان “رد الفعل المتناسب في القدر والمعاكس في الاتجاه” ارتياحاً كبيراً في الشارع اليمني. لم تبكِ أية مذيعة في التلفزيون الروسي عندما سلم بوتين الرئاسة لمدفيدف, وذهب بوتين ليقضي بقية حياته في مرسمه لينتج مجموعة لوحات فنية تشكيلية قيِّمة تم بيعها في مزاد ضخم بعد ذلك, ولكن الرجل الذي قتل شعبه وأعاد اليمن للخلف عشرات الأعوام يستحق الوداع بالدموع حسب وجهة نظر المذيعة الموهبة. حقق بوتين نهضة رهيبة لروسيا، وأعاد لها مكانة في قيادة العالم, ولكنه ترك السلطة سلمياً لخليفته دون قطرة دم واحدة، ولم يشعر بالحاجة إلى دموع أحد, وفي مقابل ذلك اجتهد صالح عند ترك السلطة على إقناع البيت الأبيض بخطورة اليمن على أمن أمريكا، وأنها تهديد يستوجب ضرورة التعامل معها عبر جنرالات الحرب، ودهاليز المخابرات بدلاً من خبراء الاقتصاد ومؤسسات التنمية. أتقنت مذيعة الفضائية اليمنية “أمل الشرامي” - وهذا اسمها - للدور المطلوب لدرجة أنها تستحق بطولة مسلسل درامي في السينما المصرية, ووجدتها لا تختلف عن مذيعة القذافي “هالة المصراتي” الشهيرة بحمل المسدس أثناء التغطية الإخبارية على الهواء من التلفزيون الرسمي قبيل انهيار نظام العقيد, وربما وجدت المذيعة الموالية فرصة للندم في السجن الخاص الذي تقبع فيه, وفي نظري لا فرق بينهما, وقد تكون الدموع أكثر خطراً على شعب كل ما يسمعه اليوم من وسائل الإعلام هو الدعوة للتسامح، حتى مع الشيطان..! يمكننا تحمل مثل هذه المناظر في التلفزيون الرسمي إذا كانت الحلقة الأخيرة من مسلسل “الرقص على رؤوس الثعابين” الذي يشبه مسلسل مكسيكي ينتهي بموت المخرج أو إفلاس شركة المونتاج, فليس كل وداع وداعاً، خصوصاً ونحن أمام رجل لا يريد العيش بعيداً عن المتاعب, وكما يقول المثل: “يموت الزمار وصوابعة تلعب”، لم يكن الخطاب المذاع إلا محاولة لاستعطاف الشعب كي يتغاضى عن عودته إلى اليمن. يعتقد البعض بأن ما يغري صالح على الرجوع إلى اليمن هو طيبة الشعب وعاطفته المتسامحة, ولكني أعتقد بأن الشعب الذي يصنع الفرح في أشد مراحل بؤسه هو شعب قوي وعظيم لا يهب عاطفته لمن أهان كرامته وقتل النساء والأطفال، واعتدى وسجن وشرّد وأحرق كل ما تطوله يد حقده. يحاول إعلاميو العائلة إظهار عودة صالح بأنها اختيار متاح له من بين خيارات ممكنة, ولكن الواقع أن مطالبة الحقوقيين الأمريكان بمحاكمته جعلت الحكومة الأمريكية توعز إليه بالعودة. أدركُ أن الانتقام هو سرور الرجل ضيق الأفق, وهي رغبةٌ تؤكد الألم الذي يعيشه صالح, فهل يختار مواجهة المواطنين الصالحين إذا ما قرر فعلاً العودة لليمن؟ وكيف يطمئن بالعودة إلى صنعاء “مواطناً” عادياً تحت رئاسة هادي, وهو الذي نجا من الموت بأعجوبة أثناء رئاسته؟ عن نفسي.. أتمنى لو يعود “المواطن” صالح ونتقابل في أي شارع وننهي الأمر بيننا؛ لأن مجرد بقائه على قيد الحياة هو أقسى انتقام. * السيناريست: يطلق على كاتب سيناريو الأفلام والمسلسلات.