لا شيء ينافس قدسيّة الوطن إلا التضحية بالروح لأجله .. ولا شيء أرقى من مخرجات المجتمع إلا معايير نظافته ..وهنا الوجع. كم أشفق على العائلات التي وهبت أغلى ما لديها للالتحاق بالسلك العسكريّ حباً في خدمة الوطن والدفاع عن كرامته وحفظ أمنه واستقراره, معولين على مستقبلهم الوظيفيّ وكيانهم المميز الكثير من الآمال والزهو والتباهي .. ليفقدونهم في لحظاتٍ طائشة ومؤامراتٍ كيدية وألعابٍ سياسيةٍ باردة كبرودة النبل في أغلب العابثين المتنفذين في هذا البلد. حقيقةً لم يعد الأب يفاخر بدفع ابنه والزجّ به في أتون تصفيات الحسابات الدنيئة .. ولم تعد الأم تزهو في محيطها برتبة ابنها العسكريّة وهي تعلم جيداً أنها دفعت به للموت الماحق لكل معايير الإنسانيّة. أشعر بالألم الشديد على كل من قضوا نحبهم من الجنود في كل مفاصل الفئات العسكريّة وهم يدركون ولا يدركون أنهم وقود حماقاتٍ وأداة وجعٍ لن يبارح الذاكرة. ولعلّ من يتكئون على البيت الشعريّ الشهير للشهيد الزبيري والذي يقول فيه: العسكريّ بليدٌ للأذى فطنٌ .. كأن إبليس للطغيان ربّاهُ .. لا يفقهون أي عارٍ وشموا به هؤلاء الأفذاذ واحتمو به في مواجهة كل من يطالب بهيبة القطاع العسكريّ وضرورة تفرده في قيمته الإنسانية والعملية قبل استحقاقاته المادية والتي هي للأسف الشديد في حضيض اهتمام الدولة .. لكنهم ساعة البغي والعدوان هم مقدمة الدمار والنكال. الجنديّ في هذه البلاد للأسف لم يعد ذخراً كما نغالط أنفسنا بذلك .. بقدر ما هو مصدر تمرير لأبشع الصفقات العسكرية من عتاولة الفساد .. ومصدر ذعر وقلق لأهله نتيجة تراكمات سخيفة ممن يتحكمون في مصيره ويعبثون بروحه كما تشاء لهم أجندتهم الزائفة. إن الجيش الذي يدمّر قرى وطنه .. ويبدد جمال مدنه .. ويفتك بأغلى الأرواح .. جيشٌ لا يملك حظه في الحياة .. ولا يُمثّل إلا مخرجات شريحة القلوب الميتة من كبار مجرمي الإنسانية حين يقدمونه لقمة سائغة في كل عمليات الدمار والعبث اليوميّ.. لكنني آمل أن يتحرر الجنود الأعزاء من غفوتهم .. وآمل من فخامة الرئيس أن ينظر بعين التقدير والإنسانية لهذه الشريحة المهمة من سلسلة عقد الوطن. وأما الضحية الأخرى فهم من عرفنا قدرهم جيداً حين رفعوا أيديهم عن شوارعنا وأزقة الحارات فصرنا أشبه بموتى يتحركون في أكوام القمامات وعفن المخلفات الشوارعية والسياسية. إن عامل النظافة أثبت أنه المسئول الأول عن رقيّ المجتمع .. لكن المسئول عليه أثبت أنه غير جدير بأي تقدير ولا يملك أدنى إحساس بذلك القبح الذي ظهرت به مدننا وشوارعنا ونفوسنا وقبل كل ذلك شعوره الميّت. جربوا يا حكومة المستقبل أن تهتموا بقيمة الإنسان بهاتين الشريحتين على الأقل .. وكلي ثقة أن المواطن المغلوب على أمره سيدرك ويشعر جيداً بمعنى الأمان من نافذة الجنود .. ومعنى السلامة الروحية والبدنية من نافذة البلدية .. ولا تسخروا من أحلامنا بهما, فلولاهما لما حققتم أهداف تصفيات حسابات بعضكما ببعض .. ولما منحتم عقولنا تخديراً مجحفاً لممارسة مالم تصلوا إليه بأياديكم وعبثكم الذي إن تكرر فلا جدوى من فرصةٍ تمنحها لكم قلوب البسطاء في هذا الوطن العظيم.