لم تعد الراهدة “درباً ولا مدارة”، ولا ملتقى للأموال والتجارة كما تغنى بها الفنان القدير أيوب طارش، حفظه الله، بل أصبحت مسرحاً للبلطجة والفوضى والنخيط والسلب والنهب، والعبث بأرواح الناس، من قبل فتوات المشايخ.. وهذا ما لا تستحقه المدينة بالتأكيد.. في الأسبوع الماضي قُتل الطفل شهاب عبدالرحمن دون الخامسة عشرة من عمره، على يد بلاطجة يتبعون أقطاباً مشيخية متناحرة في الراهدة، استمرأوا هزالة الأجهزة الأمنية، كجزء من الدولة الهشة، التي أصبحت تختزل بمجموعة مشايخ أصبحوا متسلطين على رقاب العباد وأرزاقهم.. احتج أبناء الراهدة على فوضى المشيخ هناك، وقطعوا – للأسف – طريق تعزعدن، في تقليد سيء مالا يليق بقيمهم ومدنيتهم أن يحجزوا حرية تنقل مسافرين، لا علاقة لهم البتة ببلطجة فتوات المشايخ.. كان احتجاجهم غيرة على الأجهزة الأمنية الرخوة لاغتصاب سكينة المدينة من قبل الفتوّات. لا أدري ما حاجة وكيل المحافظة، ومدير جمارك المخأ السابق محمد منصور للقب شيخ، وما داعي الهنجمة في مدينة حضرية ومدنية.. بالنسبة للفندم العميد علي حنش فقد كانت آخر بطولاته في حرب صيف 94 ضمن قوات الشرعية، بعد مشاركته في قمع مظاهرات للاشتراكيين في الراهدة قبل الحرب.. بعدها أصبح الفندم حنش شبه متقاعد برتبة شيخ، منتمٍ للمؤتمر الشعبي كجزء من التزام حفظ المصالح، بما يعزز بقاءه شيخاً ثقيلاً وإن كان قلبه أقرب للإصلاح.. الشيخان كلاهما جريحان، وأنا متضامن مع حقهما في العدالة التي كانا، وبتفاوت كبير، سبباً في تغييبها عن الآخرين، وذاقا أخيراً مراراتها في حلبة صراع المشايخ الأقوياء.. الأول قُتل أخوه الشيخ أحمد منصور مديرية خدير – وهو رحمه الله - زميل اختبارات ثانوية لا دراسة- قبل أن يداوم فيها يوماً.. والآخر قتل نجله الشيخ أحمد، على خلفية مقتل منصور، في إطار صراع النفوذ في منطقة مدنية على حساب أبنائها.. كان الشيخان - للأسف - من دفع أبهظ أثمانها، بيد أن المواطنين هناك يدفعون تكلفة باهظة أيضاً، بطمس قيمهم وتغييب أمنهم، وتهميش حقوقهم في التعليم والصحة التي أصبحت خاضعة لمزاج الشيخ الوكيل في الغالب، دون أن يكونا جزءاً من الصراع.. أي لعنة تلك التي حلت بالراهدة منذ أمد ليس بالقريب، ضداً على قيم أبنائها الراقية.. فرضت المشيخة والاقطاعية على حساب الدولة وقيم المدنية.. أن تكتب عن الراهدة، فأنت تكتب عن نواة مجتمعٍ مدنيٍ راقٍ ومتحضر، متعالٍ على النزعات العرقية والمناطقية والاجتماعية.. مجتمع يُعلي شأن الدولة المغيبة، ويحترم هيبتها المختطفة من قبل مشايخ السلطة. في الراهدة يتجسد نموذج أقرب إلى المثالية اجتماعياً لما يفترض أن تكون عليه اليمن، قرية كاملة للجنوبيين، مختلطة تماماً دون أدنى عصبيات مناطقية مع أبناء الشمال.. هناك القبيطة والأعروق، وخدير، والأعبوس، ولحج، وماوية، وصبر، وصنعاء وذمار، والحجرية، والشويفة، ووصاب، وريمة، والصبيحة والمقاطرة، وغيرها الكثير، لكن دون عاهات عنصرية كتلك المنتشرة في بعض مدن اليمن الرئيسية. وصل الأندماج الاجتماعي حد حالات زواج بين اللونين الأبيض والأسود.. ووصلت حد تفضيل الناس لمرشح لمجلس محلي يعمل في “الجزارة”، مع كل احترامي للعاملين في هذه المهنة، على مرشح الشيخ.. ورغم كل ذلك تقف الدولة، وتمثلها هنا السلطات الامنية، محايدة سلبية إن لم تكن متواطئة، مع طرف ضد آخر، على حساب أمن واستقرار وحياة المواطنين الغيورين على اغتصاب هيبتها التي فرط بها أهلها.. دون أن يستوعبوا سبباً منطقياً يبرر تلك السلبية.. لا أعلم نشاطاً للفندم السعيدي الذي استدعي من ارشيف الأمن، ليخلف قيران، المتهم بقتل المتظاهرين، وقصف أحياء تعز، غير خطبة ثالثة أو موعظة بعد الصلاة في أحد مساجد تعز قبل ثلاث جمع، تقريباً.. لكن موعد الخطبة الثالثة في مسجد الرضى في الراهدة ربما لن يأتي إلا وقد أجهز الفتوات على حياة المدينة!! يا فندم، الناس ليسوا بحاجة لخطب ومواعظ إضافية، فلديهم ما يكفي.. إنهم يحتجون على غيابك واجهزتك.. العصابات والمسلحون والبلاطجة يسرحون ويمرحون بتعز دون رادع أو خطيب يعظهم.. سيلتزم البلاطجة أنفسهم بالتعاون مع الأمن إذا وجد حيث توجد الانتهاكات وأعمال البلطجة.. بيد أنهم يفعلون دون خطبة، وهذا ما حصل في مظاهرات الراهدة الاسبوع الماضي.. أمن الراهدة وتعز اجمالاً لا يبرر بالفترة الانتقالية وهيكلة الجيش.. يحتاج شعوراً بالمسؤولية فقط من قبل القائمين على أمن الناس.. وحضور الأمن بقوة ومسؤولية، هو الحل الاجدى لمشاكل الراهدة وتعز.. وليس مزيداً من الخطب والتعويل على الزمن والقدر، وتعاون الناس.. لست بصدد إدانة أي من الطرفين بمقتل شهاب، رغم أن لديّ شهادات موثوقة، كصحفي لا كقاضٍ، تسهل استنتاج قتلته، لكن الحكم لأجهزة القضاء المهمش هو الآخر بسلطة المشيخ إياهم.. ننتظر فعلاً يحفظ أمن واستقرار أبناء الراهدة، تتبناه أجهزة الأمن التي أصبح الناس يغارون على اغتصاب سلطتها أكثر من مسؤوليها ومنتسبيها للأسف. وعلى المشايخ أن يدركوا أن زمن (ابن الشيخ شيخ، وابن الرعوي بتول)، قد أوشك على الافول إلى غير رجعة.. دولة المواطنين، لا الرعية، ستبدأ عما قريب.. فالأيام دول يا مشايخ.