«أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل».. ياله من حديث عظيم يحكي عن أرواح الشهداء! ويالها من فاجعة أليمة أصابت جسد البلدة الطيبة والتاريخ اليمني العظيم في الوقت الحاضر! إنها مجزرة “جمعة الكرامة” التي مرّت ذكراها الأولى في الثامن عشر من شهر مارس الجاري، فكيف لي أن أتحدث عنها؟ هل أتحدث عن كرامة الشهداء أم عن شهداء الكرامة؟ وهل أكرر كلاماً أفاض فيه الكتاب والصحافيون ومعظم الإعلاميين؟ كلا.. إذا كان العالم جميعه قد ندد بهذه المجزرة، وشهد القاصي والداني بسلمية أبناء هذا الوطن، وأنهم خرجوا في تلك الجمعة الدامية بصدورهم العارية فواجهتهم آلة القمع والبطش مواجهة شرسة فأخذت ما أخذت وجرحت من جرحت بلا وازع أخلاقي ولا ضمير إنساني.. فإني أتوجه بتساؤل عريض: ماذا بعد ذكرى مجزرة “جمعة الكرامة”؟! وللإجابة عن هذا التساؤل أود التعريج عليه من جانبين بمقدار ما تسمح لي هذه المساحة، جانب إنساني تذكري، وجانب مرحلي مستقبلي، أما الجانب الإنساني التذكري فيعود إلى أهالي ضحايا “جمعة الكرامة” وكل ضحايا هذا الوطن المعطاء لنذكرهم بأن بلوغ الأهداف يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها، وقد اختار الله من عباده من يضحون بأنفسهم ليحيا آخرون، فما عليهم إلا الصبر والرضا بقدر الله تعالى ثم الاسترجاع مصداقاً لقوله تعالى: «وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون» وجاءت بعدها الثمرة اليانعة بقوله سبحانه: «أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون». وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمر الله به «إنا لله وإنا إليه راجعون» اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها» وفي رواية: إن صدق صدقه الله. ولعلنا رأينا نماذج يمنية من أهالي الضحايا ممن استشعروا هذين الأمرين الصبر والاسترجاع وفرحوا واستبشروا بالخصال التي أكرم الله بها الشهداء الذين اعتدي عليهم وهم سلميون ومنها: المغفرة والجنة وشفاعة الشهيد لسبعين من أقاربه أو أهل بيته مع تزويجه اثنتين وسبعين من الحور العين وتأمينه من الفزع الأكبر وعذاب القبر وتحليته بحلة الإيمان كما جاء في الآثار النبوية. وبناء على ذلك ليفرح أهالي الشهداء وليعلنوا بصوت عالٍ: ذكرى مجزرة “جمعة الكرامة” بداية عهد جديد لمستقبل مشرق، وإذا تطلبت شجرة الوطن الطيبة تضحيات أخرى فدماء أبنائها الأوفياء هي التي سوف تسقيها كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء وذلك بالتضحية والفداء ولا المذلة الخبيثة التي سوف تجتث من فوق الأرض وما لها من قرار. أما الجانب المرحلي المستقبلي فهو جانب يوجه إلى المجتمع اليمني بكافة فئاته وأطيافه وأحزابه بالقول: إن المرحلة المستقبلية تتطلب أموراً عدة، ومنها: تتطلب قضاءً مستقلاً متمثلاً بالعدالة الانتقالية القائمة على العدل والقانون، الصغير والكبير، الرئيس والمرؤوس، الرجل والمرأة، كلهم تحت دائرة القانون سواء، القانون هو الحاكم بين الجلاد والضحية، بين الظالم والمظلوم، بين المعتدي والمعتدى عليه وفق ميزان الشريعة الغراء. المرحلة المستقبلية تتطلب إدراكاً ووعياً لما يدور خلف الكواليس، لأن هناك أناساً مازالوا يظهرون الصلاح ويبطنون الفساد، يكنون لهذا الوطن العداء، يختلقون الفتن، يمارسون النفاق، ويتتبعون خطوات الشيطان بالتحريش بين أبناء هذا الوطن الواحد، بعد أن يئس الشيطان أن يُعبد في جزيرة العرب، وهذه الخطوات كثيرة وأهمها: تزيين الباطل، وممارسة الغواية والضلال، وجلب أموال مشبوهة، وتسهيل الطرق لتنظيم القاعدة من أجل التوسع والانتشار، واختلاق الأكاذيب والإشاعات من أجل تفكيك لحمة الوطن الواحد، والاستجابة لدعوات إبقاء القتلة أمام أعين أهالي الضحايا وغيرها كثير وكثير. وهذه الخطوات الشيطانية تحتاج إلى مواجهة وحذر ورباطة جأش مع التكاتف والترابط وجعل مصلحة الوطن فوق المصالح الشخصية والعائلية بعد تغيير الأنفس وإصلاحها وطلب الخير للجميع. المرحلة المستقبلية ليست مرحلة ندب وعويل ونياحة ومواصلة الضرب في جسد الميت، بل هي مرحلة بناء تتطلب تصالحاً وطنياً صحيحاً وهيكلة حقيقية لجميع أفراد الجيش والأمن على أسس وطنية، كما تتطلب حواراً جاداً يقوم على قاعدة «كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه»، وسقفه القول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت، وأعمدته مشاركة كل أبناء هذا الوطن بلا إقصاء أو تهميش من أجل أن تتوازن كفتا الميزان وتحل جميع قضايا الوطن بأمانة وإخلاص وعمل جاد مصداقاً لقوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}. [email protected]