من الطبيعي أن تظل اليوم دعوات تمدين الدولة وتحريرها من إسار القبيلة مجرد تصورات لا تمتلك إمكانية التحقق, لأن طلائعنا السياسية والثقافية ودعاة الدولة المدنية الحديثة لم يطرقوا باب القبيلة لإشعارها باستراتيجية جديدة مرسومة للمستقبل تتضمن تضييق الخناق على كل ما هو خارج عن القانون وعن التوجه العام للدولة الحديثة, ولكنهم اختاروا أن يفتحوا عليها النار في خطابهم, فقط لأنها في تصورهم حجر عثرة, ولا بد أن يهدموا فوقها السقف ليطهروا الأرض من شرورها, من أجل اختلاس فرصة لإقامة الدولة المدنية, على طريقة البطل الخارق الذي ينهي أحداث الفيلم بالقضاء على الوحش وإنقاذ المحبوبة قبل ثوانٍ من وصول الوحش إليها. لاتزال القبيلة حتى اليوم تتعامل بفكرها الخام, وتمارس السياسة وهذا من حقها بالفكر نفسه, وهي في هذا الطريق تخطئ وتصيب, مثلما هي النخب والطلائع السياسية والثقافية تخطئ وتصيب, ونحن في تاريخنا اليمني الحديث نلاحظ أن التكامل والتشارك يجري بين هذين القطبين لتسيير قاطرة الوطن إلى هذا الحاضر, ولا نبعد عن الحقيقة إذا ما قلنا إن الوطن قد مرّ على محطات كثيرة رأينا القبيلة والنخبة كليهما يجرّب على الوطن ما يشاء من نزوات ومزاجيات وأنانيات ووصفات أيديولوجية تعثّر بها الوطن وعانى ولايزال. وليس هذا فحسب, بل فلنعد إلى الماضي لنقرأ كم مساحة الحرب التي كانت تشعلها القبيلة على التراب الوطني, وكم هي مساحة الحرب التي أعلنها رجال السياسة وأصحاب الفكر المدني الحديث؟ نعم, لقد كان لكم منهما عمقه خارج الحدود, ولكن عودوا إلى قراءة تاريخ كل واحدٍ منهما في إطفاء الحرائق لنرى أيهما أكثر حضورًا, أهل السياسة والمدنية في إطفاء حرائق القبيلة, أم القبيلة في إطفاء حرائق أهل السياسة والمدنية؟ أعتقد أن الأمر واضح في هذا الجانب. والأهم من كل ذلك وهو ما يثير الغرابة من وصول نخب المجتمع إلى مستوى كبير من الأنانية وعدم الفاعلية أن المثقف اليمني نفسه لم يتوقف عن تكريس النموذج القبلي في سلوكه وتعامله, حتى وإن كان قد يرتدي “الجينز” بدلاً عن “المعوز”, ويُحِل القبعة محل “الدشداشة”, فالحداثة في معناها الصحيح ليست تغييرًا شكليًا فحسب, وإنما هي في الأساس ثورة في التفكير والسلوك, بل كيف نسير إلى الدولة المدنية الحديثة والمثقف نفسه هو أول من يختار الوصول إلى الوظيفة أو المنصب من طريق “الشيخ”, وإن لم يكن فعن طريق السياسي أو المسؤول الذي هو في الأصل “شيخ” المنطقة, هذا واقع لا مجال للجدال فيه أو المكابرة, وعليه فلا ينبغي تدبيج الخطب العصماء في كره القبيلة ورميها بكل نقيصة ما دمتم تعطونها الفرصة للعب هذا الدور متى ما كانت مصلحتكم حاضرة. إذن فالأزمة التي نتوقّع أن تواجهها الدولة المستقبلية لن تكون في هيمنة القبيلة على الدولة كما يرى البعض أو كما يبدو في الظاهر, ولكنها ستكون في حقيقة الأمر أزمة “انهيار قيم”, اشتدت في السنين الأخيرة, وإن كان الوطن يعيشها منذ بداية انفتاحه على العصر الحديث, عندما كان يؤمل بالثورة أن تنطلق بنا إلى فضاء الفاعلية والتقدم ولكنه انتكس ولايزال ينتكس, لأن كثيرًا من أبنائه صنعوا عكس ما صنعته النمور الآسيوية, حيث أخذوا قشور الحداثة والعصرنة وصبغوها بأنانياتهم ومطامعهم ورفضهم للآخر فانهارت القيم, ورموا بالجوهر المتمثل في الصدق مع النفس والوطن في مسيرة البناء والنهوض, وهذه هي المشكلة التي جعلت الدولة في عرف كثير من مثقفي اليوم ليست إلا توزيع مناصب!. ومهما يكن من شيء, فإننا نحن اليمنيين جميعًا نطمح إلى رؤية الدولة المدنية الحديثة التي ننشدها جميعًا قبليين وحضريين, ولكن للوصول إليها لابد من تصحيح المفاهيم وتقويم الخطاب الذي يدشن به مثقف اليوم الدعوة إلى الدولة المدنية الحديثة, فكثير من الحالمين بقيام هذه الدولة لا يدركون أن “القبيلة” كيان قد يتغير ويتعرض لخضات لكنه لن يموت؛ لأن الواقع يمنحه إمكانية البقاء بل ومشروعيته, فالقبيلة هي قبل كل شيء تكوين اجتماعي وتاريخي ضارب أطنابه في عمق الشخصية العربية وتكوينها النفسي, بينما الدولة المدنية المنشودة تبقى مجرد نظرية قد تتحقق, ولكن لا محالة من أن الذهنية السياسية والثقافية التي ستنفذّها ستظل تخضع لأفكار خفية وثقافة متسربة يصعب التحلل منها؛ لأنها مستحكمة في عقلية السياسي المتحضر مثلما هي مستحكمة في عقلية القبيلي الجَلِف, لأن الكل في الميزان الثقافي سواء, فهما أبناء الثقافة العربية وأبناء المجتمع العربي الذي يصنع هذه الثقافة. وهكذا فإن الأولى أن يترك مثقف اليوم برجه العاجي ويبدأ في التغلغل في وسط القبيلة, يمد إليها يده ليساعدها في تصحيح كثير من الأفكار الخاطئة وإقناعها بالتخلي عن بعض التصرفات التي لا شك تجعل بيننا وبين الدولة المدنية المنشودة جدارًا فولاذيًا. خمسون عامًا من بداية الانطلاق نحو المعاصرة وليس للطلائع والمثقفين دور جاد في تعليم القبيلة وثقيف أبنائها, ليظهر الأمر وكأن أهل الثقافة هم المستفيدون من بقاء القبيلة على ما هي عليه, ولعل هذا الأمر في حكم المؤكد؛ لأن كثيرًا من الساسة والمثقفين تدفعهم أمراضهم الثقافية مثل حب الإقصاء والاستيلاء والتهميش إلى الخوف على مراكزهم من صحوة المواطن القبلي وسعيه لنيل حقوقه في المشاركة السياسية والإسهام في النشاط المجتمعي والثقافي, كما تدفعهم الأنانية وحب الذات والرغبة في احتكار المدنيّة إلى البقاء والتمترس في أبراجهم في ترفعٍ عن المشاركة في إنهاض القبيلة معرفيًا وثقافيًا, وإذا كان في ذلك شك, فاسألوا كم من المثقفين مستعد للبقاء في الريف لتعليم القبائل أو لرعايتها صحيًا؟, إنهم ينفرون من هذه البيئة ويبذلون الغالي والنفيس من أجل التحويل والنقل إلى الحواضر, في حين يأتي الآخر من الدولة الشقيقة أو الصديقة فيتفانى في أداء هذه المهمة الإنسانية, مهما كان حجم التحديات. ضربنا هذا المثل ليتضح الفرق بين إنسان عربي أناني يجيد صناعة الخطاب ولا يحبذ أن يمارس فعليًا صناعة التغيير والمشاركة في إنهاض الإنسان.. وبين مثقف آخر أنجز وينجز وسينجز للإنسانية شيئًا, ومع كل ذلك هو يعمل بصمت.