نعتقد أنه سيكون من العبث أن نستمر في تكرار طرح السؤال عن المتسبب في تدني مستويات التعليم العالي ببلادنا، وفي إصابة كثيرين منا بالإحباط واليأس من إمكانية التخلص من هذه الوضعية أو تجاوزها. خاصة إذا كان هدفنا هو علاج المشكلة وتحديد الأسباب الحقيقية لها بدلاً من البحث عن جانٍ وهمي أو سببٍ واهٍ نعلق عليه جميع مشاكل التعليم العالي دفعة واحدة، كي نتخلص جميعاً من مسئولياتنا وواجباتنا في ضرورة البحث عن سبل تصحيح هذا الحال. وبدلاً من الإكثار من الشكوى والتبرير والمكابرة، من جميع الأطراف التي تشترك بوعي أو من دونه في خلق هذه الوضعية البائسة والمضادة للإبداع والتطوير والجودة، يجب البحث عن الأسباب الحقيقية لتولد هذه الحالة المحبطة، وعن كيفية إيجاد الحلول الواقعية الآنية والمستقبلية للخروج منها. وقد سبق لنا في تناولة الأسبوع الماضي التعرض لأحد الأسباب الجوهرية لتدني مستوى التعليم في بلادنا، ولا نظن أننا قد أوفينا الموضوع حقه، وحسبنا أننا رمينا حجراً في بركة آسنة، أو أثرنا نقاطاً وإشكالياتٍ لدراساتٍ وبحوثٍ علمية يمكن أن تبحث وتناقش الموضوع من جميع جوانبه، وتمثل أساساً لدراسات جماعية في مختلف جامعاتنا. ولأن أسباب المشكلة تظل باعتقادي مشتركة وجماعية، والجميع يسهم بنصيبٍ معين في عدم قدرتنا على تجاوزها، سنتعرض بشكلٍ موجز في هذه التناولة لبعض أهم الأسباب التي يؤدي تضافرها إلى خلق بيئة خانقة ومحبطة في جامعاتنا اليمنية، والتأثير سلباً على مستوى التعليم العالي فيها، دون أن ندعي أننا قد أحطنا بجميع الأسباب، أو بكل تداعياتها؛ فالملاحظ أن البيئة المحيطة، وتدهور الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية، ومتاعب الحياة اليومية، قد تكون مسئولة وسبباً رئيساً في حدوث المشكلة (نعني مشكلة غياب الإبداع والإحباط النفسي لعضو هيئة التدريس، وغياب الرضا الوظيفي)، لأنها لا توفر له أدنى شروط العمل بشكلٍ مرضٍ، ناهيك بكونها بيئة فقيرة ومحبطة لكل إبداع أو تميز علمي أو بحثي، وهذه الظروف أو البيئة هي التي تدفع كثير من باحثينا إلى “الشحططة” بحسب الوصف البديع للدكتورة سعاد سالم السبع، في تناولتها بصحيفة «الجمهورية» يوم الخميس 5 أبريل 2012م بين الجامعات الأهلية، أو “الهجرة” المؤقتة أو الأبدية إلى جامعات البلدان المجاورة والبعيدة، بحثاً عن بيئة مثالية للبحث العلمي والأداء التدريسي، أو لتحسين المستوى المعيشي والاقتصادي لعضو هيئة التدريس في جامعاتنا الحكومية. والطالب، بدوره قد يكون مسئولاً حتى إن لم يعِ ذلك، أو لم يقصده أو جزءاً من المشكلة، خاصة إذا تسبب بإهماله وعدم قدرته على مسايرة جديد المناهج والمساقات الدراسية، وعدم “تفاعله” إيجاباً وزملائه مع أساتذته، وميله إلى اقتناء بعض “الملازم” الجامعية والوجبات الثقافية “خفيفة” الحمل، و”سريعة” الحفظ والنسيان، عوضاً عن قراءة المراجع والمصادر العلمية، وغياب المشاركة الفاعلة في أي نقاش علميٍ أو نشاط ذهني داخل قاعات الدراسة، وخوفه من عدم “جني” النقاط أو الدرجات بدلاً عن حرصه على “اكتساب المعارف والمعلومات والمهارات، ولهثه وراء الأحزاب والنقابات والاتحادات والانتخابات ...إلخ، في عدم اكتراث كثير من أعضاء هيئة التدريس لمستوى الأداء التدريسي داخل القاعات، وإحساس بعض الأساتذة بالنفور من مهنة التدريس، والكسل والإحباط، وغيرها من الأمراض المهنية والإصابات. وقيادات الأقسام العلمية والكليات ولا أستثني نفسي منها و أيضاً قيادات الجامعات، قد تتحمل قدراً كبيراً من المسئولية، إذا لم تدرك واجباتها الإدارية والأخلاقية نحو منتسبيها، وتكون سبباً في حدوث كثير من المشكلات، إذا لم تبحث عن سبل الارتقاء بمستوى الأداء الأكاديمي الفردي والجماعي، وتأهيل كوادرها وجمهورها من طلاب وطالبات، والرقابة على محتويات الملازم والكتب من المفردات، وتوفير جميع احتياجاتهم من: حقوق مادية، ومصادر تعليم وتعلم، ووسائل عرض واتصال، ومعامل حاسوب، ودورات تدريب وتأهيل، وكتب ومكتبات، واشتراكات متجددة في النشرات العلمية المتخصصة والدوريات. وقيادات التعليم العالي والمجلس الأعلى للجامعات، قد تكون مسئولة وسبباً إضافياً لحدوث هذه المشكلات، لأنها اكتفت بدور المشارك عديم “الحيلة”، أو في أحسن الظروف المشاهد المراقب منعدم “الوسيلة”. وربما استمرأت لعب دور الوسيط والوساطة لتمرير بعض “المشاريع والمقترحات” المرتجلة والمستعجلة، هكذا ببساطة. أو تراها استحسنت “الوصاية” على الجامعات الحكومية و“الرعاية” أو الدعاية للجامعات الأهلية، أو تشكيل بعض “اللجان” العاجلة لأجل هذه أو تلك “الغاية”، بدلاً من مراجعة تقارير الأداء السنوي التي وضعت لأجل تحقيق نفس “الغاية”، أي متابعة تقييم الأداء التدريسي والإداري، واقتراح المعالجات والحلول لضمان حسن الأداء وتحقيق كل “غاية”، مما يصيب كثيراً من المجتهدين والملتزمين باليأس والإحباط إذا غاب التقييم الحقيقي لغياب أسباب جودة الأداء الأكاديمي والإداري والمالي باعتباره مبتدأ ومنتهى كل “غاية”. وهي مسئولية وزارة المالية، التي تقف أحياناً “حجر عثرة” أمام اعتماد مصادر تمويل كثير من مشاريع البحوث العلمية والبرامج، وإعاقة تنفيذ كثير من الخطط والورش العلمية لتطوير التعليم الجامعي وتحديث المناهج، وفشل جهود تحسين جودة الأداء بعقد الدورات التدريبية، أو تنفيذ برامج التدريب الصيفي لطلبة الجامعات تدخلهم في بياتٍ “شتوي” إجباري، وعرقلة كثير من مشروعات تحسين البنية التحتية للجامعات اليمنية، وتأخير صرف مستحقات كثير من أعضاء هيئة التدريس والعاملين بالجامعات ...إلخ، بسبب عدم اعتماد الخطط المرفوعة من الجامعات أو “تخفيض” مخصصات مشاريع التطوير والموازنات. وهي أخيراً، تبقى مع تقديرنا للجميع، ومعرفتنا بجميع الظروف والصعوبات المحيطة بعملهم، والمحبطة لهم مسئولية الأستاذ الجامعي الذي ينشغل بالبحث عن لقمة العيش “والشحططة” بين الجامعات الحكومية والأهلية الوطنية والإقليمية نظير أجرٍ يومي أو سنوي، بدلاً من اشتغاله بالبحث عن سبل الارتقاء بمستوى أدائه التدريسي، وعن كيفية تطوير مهاراته البحثية، التي يجب أن تمثل “همه” الأزلي، كما يجب أن يصير الكتاب “زاده” اليومي. ولأن بإمكان الوضع أن يكون أحسن مما كان، إذا علم الجميع أنه مسئول بنفس القدر عن هذا الوضع المحبط. وأن عضو هيئة التدريس في الجامعة يمكن أن يعطي أفضل ما لديه إذا منحت له كل حقوقه المادية والمعنوية، وتوفرت له كل سبل النجاح والإبداع والتميز، وإذا تم تأهيله وتدريبه لأداء واجباته التدريسية والبحثية بأفضل السبل والطرق المتاحة. دون أن نغفل باقي العوامل الأخرى المرتبطة ببيئة العمل الجامعي نفسها، والموارد المادية والتسهيلات الضرورية لأداء العمل الأكاديمي في أحسن الظروف. سنحاول في تناولة قادمة إن شاء الله نضع عدداً من المقترحات على ذوي الشأن، ربما تسهم في معالجة كثير من الأسباب، وإيقاف معظم التداعيات.