نعتقد أنه سيكون من غير المجدي أن نستمر عبثاً في طرح السؤال عن المتسبب في تدني مستويات التعليم العالي ببلادنا، وفي إصابة كثيرين منا بالإحباط واليأس من إمكانية التخلص من هذه الوضعية أو تجاوزها. خاصة إذا كان هدفنا هو علاج المشكلة وتحديد الأسباب الحقيقية لها بدلاً من البحث عن جانٍ وهمي أو سببٍ واهٍ نعلق عليه جميع مشاكل التعليم العالي دفعة واحدة، كي نتخلص جميعاً من مسئولياتنا وواجباتنا في ضرورة البحث عن سبل تصحيح هذا الحال، وبدلاً من الإكثار من الشكوى والتبرير والمكابرة، من جميع الأطراف التي تشترك بوعي أو من دونه في خلق هذه الوضعية البائسة والمضادة للإبداع والتطوير والجودة. ولأن الموضوع متشعب ومتعدد الأبعاد والأوجه والعوامل، سوف نكتفي في هذه التناولة بالإشارة إلى أحد العوامل الرئيسة (أي الأداء التدريسي لعضو هيئة التدريس) التي سيكون من غير الصواب استمرار تجاهلها، والقفز عليها إلى أسبابٍ أخرى قد تكون مسئولة بدرجة أقل أو أكثر عن حالة النكوص والتراجع في المستويات العلمية لأبنائنا طلبة الجامعات اليمنية، وهي الوضعية التي قد تتفاقم إن لم نتداركها. على أن نتناول باقي الأسباب في تناولة قادمة إن شاء الله تعالى. بداية الأمر نتساءل: كيف يمكن لعضو هيئة التدريس والباحث العلمي الوطني أن يبرز ويتفوق ويبدع في المحيطين الإقليمي والدولي، وأن ينافس على كثير من الدرجات العلمية والجوائز البحثية، وأن يشكل حضوراً بارزاً بين نظرائه من الباحثين العرب والأجانب في جميع المنابر والمؤتمرات العلمية المحدودة التي يتسنى له المشاركة فيها، بينما لايزال كثيرون منا يشككون في كفاءته وقدرته على التدريس والتعامل مع المساقات الدراسية المختلفة في بعض جامعاتنا الوطنية؟! وهل هو مسئول إرادياً وكلياً عن هذه الوضعية؟ ألم يكن هو نفسه (ذاك) الذي حقق أعلى النقاط والدرجات، واحتل أول الصفوف والمرتبات في سني الدراسة الجامعية المختلفة داخل و”خارج الحدود”؟ وكيف يعقل أن يتحول هذا المبدع، والمتفوق، والمبرز، والنابغة، والمليء بالحيوية والنشاط “خارج الحدود”، إلى عاجز، وفاشل، وكسول، ومحبط في وطنه وبين أهله؟ هل الظروف هناك مختلفة عن هنا؟ أم أن البيئة هناك مشجعة للإبداع أكثر من هنا؟ أم أن أساليب التقييم للأداء ليست هي ذاتها هناك وهنا؟ أسئلة كثيرة أعتقد أنها غدت تحتل حيزاً كبيراً من تفكير واهتمام كل من يهمه مستوى التعليم العالي في بلادنا. ويجب أن تطرح على طاولة الحوار والنقاش للخروج بمعالجات وحلول “واقعية” وممكنة. المتتبع لكثير من الدراسات والتجارب الإقليمية والدولية يجدها تشير إلى أن عضو هيئة التدريس أو مساعديه من غير خريجي كليات التربية عادة المعين لأول مرة في إحدى كليات الجامعة يجب أن يخضع لدورات تدريبية وتأهيلية متخصصة بهدف إعداده لأداء وظيفة التدريس بالجامعة، وتمكينه من جميع الأدوات والأساليب التربوية الحديثة المناسبة لمهام العمل الجديد، حتى إن لم يطلبها، وبغض النظر عن مستواه العلمي في مجال تخصصه الدقيق. ويراعى في تحديد وعقد هذه الدورات، عديد من الأمور أهمها: دراسة وتحديد الحاجات التدريبية الفعلية لأعضاء هيئة التدريس ومساعديهم، واختيار المواعيد المناسبة لعقدها، وانتقاء الخبرات أو الكفاءات العلمية التي ستتولى تنفيذها، كما يراعى فيها التنوع والشمول والمعاصرة أو المواكبة لكل جديد في مجال التدريس وطرقه المنهجية والعلمية، والتعريف بطرائق إعداد أسئلة الامتحانات الموضوعية أو المقالية، وأساليب القياس والتقويم والمتابعة، والتدريب على مناهج التأليف للكتب والمراجع الجامعية، والتمرن على أساليب البحث العلمي وأدواته المختلفة، وبكيفية التعامل مع تكنولوجيا التعليم ووسائل الاتصال الحديثة ...إلخ بهدف الارتقاء بمستوى أداء عضو هيئة التدريس ومساعديه، وبما ينعكس إيجاباً على مستوى مخرجات التعليم العالي، وهذه مسئولية يجب أن تناط بدوائر الجودة والتطوير الأكاديمي في جامعاتنا الوطنية، بعد توفير جميع الموارد المادية والبشرية اللازمة لها. ولضمان التزام الجميع بحضور هذه الدورات التي يجب عقدها سنوياً أو بحسب الحاجة، تحرص قوانين الجامعات ولوائحها التنفيذية على وضعها ضمن معايير وشروط التثبيت أو الترقية إلى درجة أكاديمية أعلى، عبر اشتراط اجتيازها من عضو هيئة التدريس بنجاح، إلى جانب توفر الشروط الأخرى المتعلقة بالتأليف ونشر البحوث العلمية وتقييم الأداء التدريسي، والانضباط المهني والوظيفي، ومضي المدة الزمنية المحددة قبل التقدم بطلب الترقية. أخيراً، بدلاً من استمرار الحديث بمثالية أو بسوداوية عن واقع التعليم العالي في مجتمعنا، ووضع “الأمنيات” بتطبيق معايير الجودة والتطوير الأكاديمي، يجب الاهتمام بمعالجة وتوفير أدنى شروط تحقيق هذه الجودة والتطوير، لأن المسألة ببساطة أبعد من استلهام أو تقليد “تجربة” إقليمية أو دولية توفرت لها كل مقومات وشروط النجاح المادية والبشرية، وجميع أسباب الانتقال إلى تبني معايير الجودة والاعتماد الأكاديمي.. ولنا عودة إن شاء الله لتناول باقي نقاط الموضوع. *جامعة إب