قلما يجد أحدنا في عقل البلد المطمور حد اللحظة تحت ركام عقود من القهر عن توصيف دقيق لمأساتنا الوطنية المعيقة للاستقرار و النهوض، باستثناء توصيفات عابرة في زمن عاثر بقصورنا الذاتي العائد إلى تساهل بعض القادرين على المشاركة في حسم تحديات حاضر كئيب لارتباطه بماضٍ لعين. ولعل الشاعر سيف رسام ،واحد ممن يختزلون تراجيديا وطن في عبارة موجزة ،تقول: "وطني لعنة الله في الأرض" ، هذه أدق عبارة تحضر في ذهني كلما شعرت بالأسى من يوميات القلق ومفارقات الزمن الحائر بين مفترق عصرين. وقريبا من معنى الشاعر وفهمه في تشخيص واقعنا المؤلم، أشاطر شاعرنا الشعور بعار ألف لعنة ولعنة، اصابت روح الوطن المشنوق بلعنات لن يغفرها التاريخ لمن شارك في صنعها وبقائها، بداية من لعنة اليمن بحكم شخص للبلد ،وليس آخرها تشبثه بالبقاء في المشهد رغم شرط حصوله على حصانة مقابل خروجه من المشهد. والجزئية المخزية في مأساتنا عدم احساس الرئيس السابق وأوباش نظامه السابق وأساطين عصره بفداحة وثقل تركتهم البشعة في حكمهم البلد جنوبه وشماله. تركة استبدادية كبيرة جداً وعميقة الأثر في وعي البلد تحتاج لرفعها عن كاهل الوطن، بوصفه لعنة تاريخية تسد آفاق تقدمنا نحو المستقبل بفعل ما خلقته من ارث سياسي يستدعي التغيير ، وتحديات شتى لن تنتهي دون تضحيات جسيمة لكافة القوى الوطنية. ومع الشعور بفداحة ومخاطر المرحلة ،هناك إيمان شعبي بحتمية وصولنا الى حيث نريد ،يقابلها قناعة كاملة بعدم عودة عجلة التاريخ الى الوراء، كون إرادة الشعب وحدها فقط، كفيلة في إنجاز تطلعات الناس بمستقبل مختلف عن الماضي المشين وكوابيسه. لست اكثر تفاؤلاً من غيري في حتمية عبور البلد الثائر ظلمات المرحلة حتى النصر ، و بقدرة الشعب على الخلاص وتحقيق حلمه،وحتماً ،سيصبح الحلم واقعا ،وهذا مرتبط بتقدم قطار ثورة الكرامة في رحلته المباركة،ويوما ما، وغداً سيلمس الناس اثر ما ستحدثه الثورة من تغيرات جذرية وعميقة على مختلف مسارات ومناحي الحياة. قد نحس الآن بمشقة تجاوز ماضٍ يثقل كاهل الوطن،ورحيل نظام همجي تعددت تهديداته للشعب بقنابله الموقوتة ،كما كان توعدنا في اكثر من خطاب شمشموني قبل وأثناء الثورة السلمية. وبالفعل ينفذ تهديدات رغم رحيله من كرسي الحكم ،كلما توهم البعض توبته من مرضه وعقده بحق شعب صبر عقود لبطشه وسكت عن جرائمه منذ اغتصب كرسي الحكم في سبعينيات القرن الفائت. هذه ليس اتهامات للهروب من تحديات المرحلة، بدليل تزامن جرائمه مع بداية كل انتقال وتحرك وطني نحو الوطن الحلم،ولا يستطيع احد نفي توالى افعالهم الانتقامية في صدر حلمنا العاري من ضغائن ماضيهم الملطخ. لكن قدره الغرق بدماء شعب رافض لاستمرار تسلطه وتفننه بالعبث بحياة الابرياء حتى اللحظة الذي حصد كثيرا منهم في حروبه التي نعيش ويلاتها حد اليوم ،ما يستدعي منا تجاوزها ومعالجة تبعاتها بروح حريصة وبمهمة لا يعتريها تسويف. جرائم لا تدفن بحصانة او تموت بتقادم الزمن ،وبقدر وهمه بالنجاة من إثم دماء الشعب ،اعتقد جازما بيقين الشعب بتحرره، وعدم تراجعه قبل الوصول الى غايته المتمثلة بوطن حر و دولة مدنية ، عادلة ، ديمقراطية .. وإرادة الشعب اقوى من قاتلها ! علمتنا الثورة كثيراً من المعاني والقيم ،اولها حقنا بالحلم في حرية وحياة كريمة ودولة عادلة حتى آخر رمق مهما حاولت قوى الشر قنص عصافير احلامنا التي سافرت نحو مرافئ الوطن المنشود بداية العام وإلى غير رجعة. في كل يوم جديد نفقد شيئا مما نشدنا ذات يوم ،لكنا سنظل نحلم دون كلل او ملل ،ولو ثقب محمود درويش مكامن وعينا القلق من جور دهاليز السياسة،بقوله المؤلم : يموت من لا يستطيع الركض في الطرقات! لن نموت هنا بدون ثمن ،بل على العكس من ذلك،سيكون لموتنا معنى وقيمة لمن سيجنون من مهزلة الموت المعمم او لمن سيأتي بعدنا بوصفة الثورة والتغيير متوالية لا تنتهي ،وإرادة لا تموت ،ومن هنا يجب أن ننتصر للحياة مهما كان الثمن في مواجهة الموت. وفاءً بوعدهم للشعب وشهداء ثورته السلمية، يجب على كافة القوى السياسية والمجتمعية دون استثناء تغليب مصلحة الوطن على مصالحهم ،و تحمل مسؤولياتهم التاريخية بهدف استيعاب كافة المطالب بغية الوصول لحلول جذرية لقضايا مصيرية تهدد الوطن بالتشظي، ووجودنا بالفناء بفعل غياب مشروع وطني. حتماً سننجو دون شك في حال استشعرت تلك القوى واجباتها الوطنية، وعملت بروح فريق واحد لإخراج البلد من النفق المظلم ،تمهيدا لنقلها من حاضر بائس الى مستقبل مشرق بالحرية والعدالة ودولة ديمقراطية وتعددية سياسية اكثر طهارة من اوساخ الماضي الملوث بثقافة الدم ومسخ القيم طيلة ثلاثة عقود من همجية الحكم الدموي البغيض.