وسط هذه الأجواء الاحتفائية باليوبيل الذهبي لثورة 26سبتمر 1962م، والذي يأتي هذا العام في سياق متغيرات التسوية السياسية والانتقال السلمي السلس للسلطة؛ إيذاناً بتحول جديد وإضافي في مجرى هذه الثورة.. أقول وسط هذه الأجواء المفعمة بالارتياح والتفاؤل علينا واجب التوقف عند كثير من المحطات التي شكلت فارقاً في مجرى هذه التحولات من حيث كونها انتقلت باليمنيين من مرحلة التخلف والعزلة والعبودية إلى أفق جديد يتيح تحقيق تلك التطلعات في الانعتاق من أسر تلك الظروف القاسية والمريرة إلى حياة سعيدة ومستقرة يهنأ فيها اليمنيون بالحرية والعدل والمساواة والاستقرار أسوة بباقي شعوب المعمورة. و لعل من أبرز تلك المحطات التي أسهمت في تفجير الثورة اليمنية دور مصر والزعيم عبدالناصر اللذين يحضران على استحياء كل ما احتفلنا بهذه المناسبة الوطنية التاريخية.. ولا أدري لماذا؟ هل هو قصور في الذاكرة الوطنية؟ أم هو محصلة لمجمل المتغيرات الإقليمية التي استتبعت مؤتمرات المصالحة في الشمال بين الملكيين الجمهوريين يوم ذاك ثم خروج القوات المصرية إثر نكبة حزيران عام 1967م؟ أم لسوء إدارة المؤسسة الثقافية والعلمية في الاحتفاء بمثل هذا الموقف القومي والذي ما كان لليمنيين أن يلجوا إلى فضاءات الانعتاق والتحرر والاستقلال بدون هذا الدور أو بمعزل عنه؟ إلى ما هنالك من التساؤلات التي تستفز ذاكرة الوعي الوطني، وهي تتلمس مثل هذا الغياب الكبير تجاه دور ريادي غير مسبوق لبلد شاء بإرادته المستقلة وبواعز من روح مسئوليته القومية أن يقلد أعناق اليمنيين بقلادة الخلاص من تلك الظروف البائسة التي لم يكن يعيشها حتى أكثر التجمعات البشرية تخلفاً وبدائية وغير آدمية، إلى ما هنالك من تساؤلات تستحضرها الذاكرة عن هذا الغياب، وما إذا كان هذا التناسي عن جهل أو تعمد. وفي كلا الحالين يزاد العتب على أنفسنا، إلا أن ما يمكنه تطبيب جرح التناسي هو سرعة إعادة الاعتبار لهذا الدور الطليعي لمصر وعبدالناصر ممن لم يبخلوا بشيء على ثورة اليمن، حيث امتزجت دماء أبناء الكنانة بدماء أشقائهم اليمنيين في ملحمة غير مسبوقة يشهدها العصر الحديث، فضلاً عما استنفدته مصر من إمكاناتها المادية في ذلك المعترك الحضاري، وهو ليس بشيء إذا ما اقترن كذلك بجهدها في بناء الإنسان اليمني وتأسيس الدولة مطلع ستينيات القرن المنصرم؛ حيث ضخت مصر بخبراتها التعليمية والتشريعية والاقتصادية. ولاتزال ذاكرة الكثيرين تحتفظ بتلك المآثر التي اجترحها الأشقاء لتأسيس هذه الدولة الحديثة على ركام من غبار التخلف الشامل، بل ويتعاظم هذا الدور إذا ما تذكرنا احتضان المعاهد والجامعات والكليات والمدارس المصرية لأبناء اليمن بكل ترحاب ومحبة طوال كل هذه العقود. والأمر لا يقتصر فقط على الدعم المصري لثورة 26سبتمر فحسب بل إن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان يرى بعين ثاقبة إلى أن معركة اليمنيين لا تقتصر فقط على اجتثاث نظام الحكم الامامي، وإنما تكتمل بإزاحة الحكم الأنجلو- سلاطيني في الجزء الجنوبي من اليمن. ولعلنا نسترجع في هذا الصدد وقفة الزعيم عبدالناصر في مدينة تعز بعد قيام الثورة وهو يقول:”على الاستعمار البريطاني أن يحمل عصاه ويرحل...” ويوم ذاك ضخت دماء جديدة إلى ثورة الكفاح المسلح في الجنوب؛ حيث فتحت جبهة جديدة في هذه المواجهة من تعز وقعطبة وتدافع الفدائيون والأسلحة إلى مناطق البركان في عدن وردفان وبيحان، وانخرط اليمنيون من الجنوب والشمال في معركة التحرر التي أكدت على واحدية الثورة، خاصة إذا ما عرفنا أن جبال وتلال الشمال هي الأخرى امتزجت بالدم اليمني من كل مناطق الجنوب والشمال على حد سواء.. والتي أكدت جميعها على واحدية الثورة وحتمية الانتصار على الظلم والاستبداد سواء ارتديا عمامة الإمام أو بدلة المحتل !! إذاً نحن أمام حاجة ماسة لإحياء هذا الدور الطليعي لمصر في نفوس الأجيال التي - للأسف الشديد - لا تعرف شيئاً عن كلفة النضال الوطني والدور البارز لمصر في مناصرة ودعم ثورة اليمن، فضلاً عن جهل هذه الأجيال لظروف التخلف الذي عاشته اليمن إبان تلك الفترة، والتي كانت تنذر بكارثة انقراض سلالة اليمنيين من على هذه الرقعة، حيث كانت المجاعة تحصد الآلاف من السكان ويقوم الجهل والمرض بحصد ما تبقى من هذه الأجساد الهزيلة والعارية. في تصوري المتواضع فإن إحياء مثل هذا الدور الطليعي لمصر لا يقتصر فقط على الأنماط التقليدية المعهودة والنمطية، بل يتأتى ذلك في مسؤولية المؤسسة الثقافية والإعلامية ودور النخب في صياغة أشكال جديدة لتعزيز روابط الصلات وتفعيل المشترك من السياسي والتنموي والأمني والثقافي؛ من خلال توسيع دوائر التواصل عبر مختلف القنوات. ولعلنا في هذه العجالة نتذكر ما آلت إليه بعض تلك المؤسسات المعنية بتعزيز القواسم المشتركة بين البلدين والشعبين من راحة أبدية يتطلب إيقاظها وإعادة الروح إليها كالمجلس الاقتصادي المشترك وجمعية الصداقة وغيرها من اللجان الثنائية المشتركة سواء كانت رسمية أو شعبية. إن الأمر لا يقتصر على اليمنيين فحسب وإنما يطال النخب والمؤسسة في مصر أيضاً، والتي عليها واجب إحياء مثل هذه القيم العظيمة في تاريخ الشعب المصري، وبأن الكلفة التي دفعتها مصر في اليمن لم تذهب هدراً وإنما أينعت ثماراً باسقة يحق للأشقاء في أرض الكنانة أن يفخروا بأنهم كانوا أحد بناتها.. (فهل من مدكر)، وتحية لمصر.