يخلو احتفاء الشعرية المعاصرة بالنص الديني من أي طابع لاهوتي، أو نزعة تدينية، بالمعنى التقليدي، إذ إن النص الديني لا يمثل بالنسبة للشاعر المعاصر، كأدونيس وأنسي الحاج وأمل دنقل.. أكثر من مصدر إلهام وثروة رمزية، واحتفاؤهم به يمثّل جزءاً من احتفاء الشعر المعاصر بالتجربة الميتافيزيقية للقصيدة بأبعادها الروحية والجمالية والرمزية الصوفية، بجانب أن آلية الاقتباس الشعري، والأدبي عموما تعزل النصوص الدينية المقتبسة عن سياقاتها السابقة، وتزج بها في سياقات فنّية جديدة لها قيمتها ومعطياتها المختلفة، وبالتالي فإن الاستشهاد بنص ديني ليس احتجاجا فقهيا، بل احتجاجا فنيا، فعلى الأغلب يحتج الشاعر بالنص المقدس، في سياق مختلف عن سياقه الأصلي، وفي مقام مضموني آخر. وفق هذه الآلية التحويلية للتناص الشعري، استثمرت الشعرية المعاصرة القيم الاعتبارية والتعبيرية للنص المقدس، وشيوعه وتجذّره في الثقافة والوعي الجمعي، في المتون الشعرية والعتبات، ويشمل المصدر الديني للاقتباس الشعري الكتب المقدسة، وأقوال الرسل ورجال الدين .. في الثقافات المختلفة. على صعيد الاقتباس من الكتب المقدسة، مثّل أدونيس حالة ملفتة في اقتباساته القرآنية، كمّا وكيفا، وهو من خلال الانتقاء وإعادة التسييق، يستشرف بالنص القرآني تخوماً شعرية مختلفة، فيعيد إنتاج النص المقدس، وأرضنته، ويعيد صياغة حمولاته بمفاهيم أرضية خالصة، ومن ذلك تصديره قصيدة “تحولات العاشق(1)، بالآية (..هن لباسٌ لكم، وأنتم لباسٌ لهن..) بآلية تناصية تجعل من الآية دعوة سماوية لممارسة الجسد، المضمون المهيمن على القصيدة، وإلى ذلك صدّر نصه “أقاليم النهار والليل (2)” بالآية (.. وتولوا وأعينهم تفيض من الدمع..) استثمارًا لمناسبتها التاريخية ودلالتها النصية في تعزيز وإبراز المضمون البروليتاري الذي اشتغل عليه النص. من جهة أخرى نجد “الكتاب المقدس” بعهديه حاضرا ً لدى خليل حاوي في استهلالات شعرية ك” المجوس في أوروبا” و”لعازر”(3)، وكذلك لدى “ أمل دنقل”، وبشكل خاص في استهلال ديوانه “العهد الآتي” (4)، حيث استهله باقتباسين من العهد القديم والعهد الجديد، بما يذكّر بفعل المازني في روايته (إبراهيم الكاتب) حيث صدَّر كل فصل من فصولها باقتباس من العهد القديم(5)، ومن الواضح أن الاقتباسات الاستهلالية لديوان “العهد الآتي” لدنقل مع الكتاب المقدس بعهديه، يعكس ويعزز التناص البنائي والأيديولوجي .. بين ديوان” العهد الأتي “ وبين عهدي الكتاب المقدس، باعتبار الديوان يمثل بديلا أو امتدادا عصريا لهما. بجانب الكتب المقدسة تمثل أقوال الرسل والقديسين موردا دينيا ثراً للتناص الشعري، كما في استهلال أدونيس “تحولات العاشق” بعبارة (الجسد فيه الروح) للقديس غويغور، بجانب الاقتباس القرآني آنف الذكر، والعبارة في سياقها الجديد الشعري، ومن خلال علاقتها التناصية بالقصيدة، وبجانب الآية القرآنية، تبرر الشكل الحسي المباشر للحب، وتحتج لأهمية الجسد باعتباره موطن الروح، بل تنتقد الفصل اللاهوتي النظري بين الجسد والروح، باعتبار الممارسة الجسدية ممارسة روحية بامتياز. الحديث النبوي كان حاضرا أيضا لدى أدونيس، كما في تصدير “تحولات الصقر (6)” ب (كادت الفاقة أن تكون كفرا)، بجانب العبارة الشهيرة لأبي ذر الغفاري: (عجبت لمن لا يجد قوت يومه) والاقتباسان كما هو واضح فيهما، وفي علاقتهما بالنص، يحملان أيديولوجية ثورية بروليتارية هيمنت على النص، ويبرران لها، ويوفران لها شرعية ومنطقا مستمدا من روح الدين الإسلامي الحنيف. إن هذه الدرجة العالية من حضور النص الديني في شعرية أدونيس، تمثّل ملمحا من ملامح شعريته، ومدخلا قرائيا وتأويليا فاعلا في استبطان وتفكيك بنيته النصية، القائمة على جدل ديالكتيكي فريد بين الميتافيزيقيا والواقع، والمسكونة بالعصر والنزعة الصوفية التي جسدتها كتاباته، وساهمت بشكل ما في إضفاء هالة من الغموض والتكثيف على قصائده، ك (زهرة الكيمياء)(7) التي استهلها بعبارتين للنفري، أولهما (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة)، وهي رسالة لها مغزاها في التبرير والتنظير لغموض وكثافة الكتابة الشعرية الحديثة لأدونيس، كما هي في القصيدة، وبآلية التحويل ذاتها يقتبس أدونيس عن الإمام علي، وعن الشيخ الصوفي أبي القاسم الجنيد، في مجموعة (أقاليم النهار والليل)(8). إن النص الديني بمختلف موارده ومغازيه، حاضر بدرجاتٍ متفاوتة لدى شعراء المعاصرة في الاقتباس الاستهلالي، في سياق الاستئناس والاحتجاج وتدعيم الرؤية الشعرية، وفق آلية تناصية تتجه من معلومية النص الديني إلى تحولية التوظيف الشعري، مستثمرة شيوع ورسوخ العبارة الدينية، وقيمتها الروحية والاحتجاجية العالية في الوعي الجمعي، لزرعها في سياق جديد، على المتلقي ملاحظة مغايرته، وإعادة إنتاج دلالة مختلفة للنص الديني من واقع السياق الجديد. الهوامش: 1) انظر، أدونيس، الأعمال الشعرية الكاملة , دار العودة، ج1، ص505. 2) انظر، المصدر السابق، ج1، ص541. 3) ديوان خليل حاوي، ص 107، 307. 4) انظر : أمل دنقل، الأعمال الكاملة، ص 217 5) انظر: مجدي وهبة , وكامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب, ص56. 6) انظر: أدونيس، الأعمال الشعرية الكاملة , دار العودة، ج 1 ص 461. 7) انظر: المصدر السابق، ج1 ص433. 8) انظر: المصدر السابق، ج1 ص541. رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=467642696608144&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater