يتكون العنوان من مفردتين : وقي وفتنة. والوقاء والواقية كل ما وقيت به شيئاً ، والواقي الحائط ، وتوقى وأتقى بمعنى ، وقد توقيت وأتقيت الشيء . وتقيته أتقيه ، واتقيه تقى وتقية وتقاء حذرته (لسان العرب). أمَّا فتن فتصريفاتها : الفتن الإبتلاء والإمتحان والاختبار. وفتنت الفضة والذهب أذبتهما بالنار ، لتميز الرديء من الجيد. ودينار مفتون. ويفتنون يحرقون بالنار ، والفتنة المحنة ، والفتنة المال والأولاد والكفر واختلاف الناس. والفتنة الظلم (اللسان). الفتٌانين: الدينار والدرهم (أساس البلاغة). فالفتنة : الشيطان ، النار ، الحرب ، المحنة ، الإرهاب ، العذاب ، الخصام ، ترتدي أكثر من لبوس وتحمل أكثر من دلالة ، وتشكل لتحمل أكثر من معنى وفتن القرن الواحد والعشرين وباء جائح يعصف بالقارات الخمس يتوسل المقدس ، ويستثير الحمية والعصبية وكل أمراض القرون الخوالي. ليس الفتنة كالخير كالشر كالحق كالباطل . خروج آدم من الجنة فتنة وقتل قابيل هابيل بداية الفتنة إن كان للفتنة بداية ، وما فعله يهوذا الأسخر بوطي بالسيد المسيح تكثيف لرمز الفتنة التي تبدأ ولا تنتهي وتتخذ صيغاً وأشكالاً مختلفة. التاريخ العربي ليس استثناء من التاريخ العالمي الزاخر بالفتن والحروب والآلام، ولكن البيئة العربية خصوصاً في الجزيرة قد عرفت في جاهليتها تاريخ فتن بامتياز أيام الجاهلية وحروب الكلأ والمرعى والعرض والأرض والتفاخر بالعصبيات والأوثان تحتل مساحة شاسعة في الشعر الجاهلي الذي تقطر من أحرفه الدم وتشتعل كلماته فتناً. فالدم لا يغسل إلاّ بالدم. والثأر ولا العار اشتعلت حرب البسوس بسبب سهم عامد أصاب ضرع الناقة سراب التي كسرت بيض طير أجاره كليب ، فكان ان قتل جساس كليباً ودامت الحرب أربعين سنة بين بكر وتغلب ، فالعربي الذي ينحر الناقة لطارق ليل يحارب من أجل ضرعها أربعين سنة. أما داحس والغبراء فقد استمرت هي الأخرى أربعين سنة بسبب سباق داحس والغبراء مع الخطار والخنفاء وهي حرب عبس وذبيان وهي الحرب التي تتحدث عنها معلقة زهير بن أبي سلمى فما الحرب إلا ما عملتم وذقتم. حرب الفتن والثارات تعطي الخبر الأكبر من تاريخ الجاهلية. وإذا كان الإسلام نفياً لهذه الفتن –فلم يدم النفي طويلاً فقد قتل ابن الخطاب في المسجد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذبح عثمان والمصحف في يده ، وقتل علي وهو يصلي بالناس ، واستبيحت المدينة سبعة أيام وجرى ضرب الكعبة بالمنجنيق ، وسفك الحجاج دماء خيرة العلماء والتابعين ، وذبح القسري الجعد بن درهم تحت المنبر كأضحية عيد. وأصبحت القوة العريانة والمجردة من أي قيمة دينية أو أخلاقية أو معنوية هي الحكم : أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية ، فإن يمت فهذا ، وأشار إلى يزيد ، ومن أبى فهذا وهز سيفه، مذابح الأمويين ضد خصومهم ومذابح العباسيين ضد الطالبيين والأمويين أيضاً وضد الخارجين دفعت بالشيعة إلى التصوف والتقية. أسقطت الدولتان “المقدس” وألقت على شرعية الغلبة والقوة ، وفي أحسن الأحوال جرى توظيف المقدس لصالح القوة والله لم أنلها برضى منكم ولا مسرة بولايتي ولكني جالدتكم بسيفي هذا ، (معاوية). فالقوة والخوف منها هو ما جعل الطائفتين الكبيرتين السنة والشيعة وإن أختلفتا على العصبية وحصرها ما بين أمية وهاشم وحكم قريش –تتفقان على الإذعان وهو الأخطر. لقد غيبت الإمامية الإثنا عشرية إمامها وأناطت بظهوره أهم شؤونها فانطوت على نفسها وأخفت الكثير من علومها واجتهاداتها وتدثرت بالتقية وجعلت من غيبة الإمام المستور ذريعة لعدم طلب الولاية. لم تقل الإمامية أو الزيدية أو الإسماعيلية أو فرقة من فرق الشيعة بانحصار الإمامة في البطنين إلا بعد اغتصاب معاوية للأمر والعمل على توريثها ليزيد وإرغام كبار الصحابة والتابعين والعلماء على الإذعان والبيعة. كانت الغيبة والتقية والعصمة وحصر في آل البيت معطى من معطيات تغول القوة الأموية والعباسية ، من قال لي اتق الله ضربت عنقه ، (عبدالملك بن مروان) ، أما السنة رغم تمنع علمائها وفقهائها ومعاناة مجتهديها : سفيان الثوري ، أبو الطبري ، حنيفة ، إبن حنبل ومالك والشافعي والليث بن سعد ومدوني كتب السنة. إلاّ أن هذا التيار وتحت وطأة القمع الشديد والوحشي والإغراء ، فقد انصاعوا للقوة وراحوا يحذرون من الفتن ويؤصلون للقبول بالقهر والغلبة وكان معاوية نفسه أول من قال لابن عمر : إنك كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك فيها أمير وإني أحذرك أن تشق عصى المسلمين ، أو تسعى في فساد ذات بينهم وراح بعده فقهاء ومدونوا الحديث : اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ، من جاءكم وأمركم جميع يريد شقكم فاشدخوا رأسه. بل قال فقهاء المالكية الذين عذب أمامهم وأتى منه أمر عظيم لمظنة فتائه ببطلان بيعة السفاح لأنها أخذت بالإكراه قالوا : من تزوج امنا فهوا عمنا ، ولم يناقشوا كيف تزوجها ؟! وبذلك قالت الشافعية والحنبلية وجمعوا بعدم الخروج على ولي الأمر إلا أن تروا كفراً بواحاً. ورأى أئمة المذاهب الكبرى أو أجمعوا على مقولة : إمام غشوم ولا فتنة تدوم. وللأسف الشديد فإن الإذعان والطاعة لولي الأمر لم تجنب البلدان الإسلامية والعربية ويلات الفتن ، فقد سمحت هذه السلبية المقيتة بتوالي فصول دامية من الإرهاب والقمع الوحشي وإدامة الفتن والحروب المستمرة حتى اليوم. إن الحاكم العربي اليوم لا يربطه بالعصر شيئاً غير شرعية القوة والغلبة وما ورثه من الجاهلية ، وأضاف إليه قوة الغلبة الحديثة جداً ، وقد أستطاع الحاكم المستبد تجديد أدوات القمع وبناء أجهزة متعددة ووظف إمكانات الدولة لبناء قوة هي كل شرعيته، كما أبقى على أبواب الفتن والحروب مفتوحة لينتزع بها الولاء الخائف والمذعور ، فالقبول بالإستبداد مخافة الفتنة قد جعل من الفتنة الحقيقية المطلقة وهو ما دمَّر ويُدمِّر العديد من أقطار الوطن العربي. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=467630816609332&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater