الثنائية التي صبغت الفكر عند الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (مادة / روح) لازمته حتى عُرف بها وأصبحت هذه الثنائيات بعده هي محل تساؤلات الفلسفة وكيفية التكيف معها بل والتمرد عليها فتنوعت تلك التساؤلات بقدر تنوع العقول التي فكّرت فيها وكان نتاج ذلك عشرات الفلسفات ذات الأسماء المتعددة فمن العقلانية والتجريبية والبراجماتية والوجودية والنفعية والجدلية ….الخ. ونحن في المشرق العربي والإسلامي لسنا بعيدين عن ذلك وأثره سواء في فلسفتنا أو حياتنا الفكرية ، فلمّا دخلت الفلسفة علينا في القرن الثاني الهجري عندما تُرجمت أغلب كتب اليونان إلى لغتنا بدأ فلاسفتنا في هذا المضمار وجاروا الغرب إذا لم أقل سبقوهم في تساؤلات عديدة، فالإمام أبو حامد الغزالي سبق ديكارت في شكه حول حقيقة الأشياء والفرق بين العالم الواقعي والأحلام ، وشيخ الإسلام ابن تيمية سبق ديفيد هيوم في نبذ المنطق وعدم فائدته ،وكان ابن رشد الشارح الأكبر لفلسفة أرسطو الذي غرفت أوربا منه الكثير . لكن هذا الثراء الفكري لدى علمائنا الأوائل لم يستمر إذ صادر علماء (النصوص) بعد حادثة خلق القرآن منهج المعتزلة في استخدام العقل لقراءة النقل وانتصرت السياسة لرجال النقل على رجال العقل لنرث النصوص المجردة وما كُتب عن هذه النصوص إلى اليوم. هذا الإرث الثقيل أدخلنا في مزالق الثنائية المقيدة لكل فكر ، فأنت إما (مع أو ضد) لا ثالث لهاتين الحالتين، وفقهنا كُبس في حالتين (حلال / حرام) ولم أعد أسمع من حضرات المفتين الكرام التدرجات التي ملأت كتب الفقه (مكروه/ مندوب / مستحب …الخ) إنما حدان لا ثالث لهما ولا تدرج بينهما . فاختفت كل ألوان الطيف المتعددة ليبقى لونان متضادان فقط (أبيض/ أسود) دون أن يعلم المصادرون لحرية الفكر أن اللون الأبيض ما هو إلا خلطة من كل الألوان مجتمعة في حين أن اللون الأسود لا يعني إلا مصادرة لكل الألوان مجتمعة أيضاً. فأي فكر هذا ؟ وأي إرث يتحدثون عنه ؟ أنا لا أعتقد أن تراثنا الفكري العربي والإسلامي بمثل هذا الحال الذي يعرضه المحدثون اليوم لأن إرثاً بمثل هذه الحدية المزعومة والمصادرة المعروضة علينا لا يمكن أن يصنع دولاً سياسية ولا حضارة كالتي وثّقها التاريخ في القرون المنصرمة على تلك الرقعة الواسعة من الأرض ( من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً) . إننا اليوم لمّا نتلفت حولنا سنجد أن الدول العظمى قائمة على تنوع خصب لا ثنائية قاتمة مقيدة لكل عطاء . ولمّا نتحدث عن الحوار المزمع إقامته في بلادنا أو أي حوار في منطقتنا العربية تصدمنا العقلية العربية التي تربت على إرث مثل هذا قائم على ثنائية مفرطة ، فبالله عليكم كيف يكون الحوار بين لونين لا ثالث لهما ولا يقبلان أي لون آخر ؟إن الثنائية القاتمة تفرز الأحادية المقصية لكل طرف حيث يدّعي أي طرف انه يحمل الحقيقة المطلقة في دوغمائية مقيتة ولا أحد غيره لديه شيء ، فعلى ماذا يحاور ؟ إن صبغة الثنائية الفكرية التي نمت عليها مجتمعاتنا العربية يجب أن نخفف من غلوائها بالانفتاح على الأفكار الكثيرة والمتنوعة لأن التنوع هو سنة الله الكونية في كل شيء ، وهذه الأحادية المفرطة ضمن هذه الثنائية المغلقة تعتبر خروجاً عن السنة الكونية ، فيصبح أصحابها (شواذ ) عن مسار هذا الكون الفسيح ، وصدق الله العظيم إذ يقول (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) «يس :36». رابط المقال على الفيس بوك