يمر المدون اليمني علي السعيدي بمحنة فاصلة تتهدد حياته بدرجة أولى، حيث يواجه عقوبة الإعدام جراء تهمة كيدية تتعلق بآراء دينية نشرها على صفحته بالموقع الاجتماعي (فيس بوك)، واعتبرها خصومه خروجاً وارتداداً عن دين الإسلام. ومعروف أن الفقه التقليدي يحكم بالإعدام على من يرتد عن دينه، استناداً إلى حديث الرسول الكريم: من بدل دينه فاقتلوه. وهذه الواقعة ليست الأولى من نوعها، التي تفرض مجدداً الحديث عن الحرية الدينية عند المسلمين، وكيف يغدو ذوو الرأي عرضة للترهيب باسم الدين، الذي جاء في الأصل ليكفل حرية العقيدة قبل أي شيء آخر، وبموجب آيات قرآنية صريحة. لست هنا بصدد مناقشة كيف أن الحديث النبوي آنف الذكر قد استغل بصورة تعسفية، وغدا سيفاً مصلتاً على المعارضين للحكام في مختلف فصول التاريخ الإسلامي الحبلى بشتى أنواع الاستبداد والقهر الفكري. ما أود مناقشته بالفعل، كيف أن الضوابط التقليدية لإطلاق تهمة الردة، قد جرى تجاوزها، وأصبح بإمكان أي متمنطق باسم الدين أن يتهم الآخرين بالخروج والمروق عن دين الإسلام. في الفقه التقليدي يتهم بالردة من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويستتاب المتهم ثلاثة أيام كفرصة للتراجع عن أفكاره، قبل أن يحكم عليه بالإعدام. ولأن القضاة غالباً ما كانوا يراعون هذه الضوابط، فإنه نادراً ما رأينا أفراداً تطبق بحقهم هذه العقوبة، مع أن بعضهم كان قد ادعى النبوة! لكن ما نعرفه في تاريخنا الإسلامي أن تهمة الارتداد كانت تطلق على جماعات معينة كانت في الأصل معارضة للحاكم، بمعنى أن الردة استخدمت سياسياً أكثر من استخدامها فقهياً. في بواكير خلافة الصديق أبو بكر، كانت حروب الردة خير مثال على ذلك؛ إذ تمسك الخليفة بقتال من رفضوا تسليم الزكاة للدولة الناشئة بعد موت النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وعندما استشار الخليفة كبار الصحابة في الأمر، رأوا أن يتريث قبل مقاتلتهم، لكنه قال قولته المشهورة: “والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه”، وقاتلهم بالفعل. بيد أن الردة لا تفهم هنا إلا في سياقها السياسي، فالصحابة طلبوا من الخليفة التريث خشية على مصير الدولة الناشئة، والخليفة أراد القتال تثبيتاً لدعائم الدولة، وحتى لا يتفرق العرب من جديد، فقد كانت الحرب من أجل الدولة وليس من أجل الدين بالضرورة، وللمفكر الإسلامي محمد عمارة كتاب يشرح فيه ملابسات هذه الحرب. حروب الأمويين والعباسيين ضد العلويين والخوارج والقرامطة، وغيرهم، تندرج في هذا السياق، حيث وظف مفهوم الردة واستخدم كسلاح ضد المعارضين الذين كان فيهم من هو أتقى وأعرف بالإسلام من بعض الخلفاء المستبدين بالأمر، ولأن الاختلاف كان سياسياً فإن الخليفة عمر بن عبد العزيز قد أوقف الحرب مع العلويين وقرب إليه آل البيت من الهاشميين، وأوقف الدعاء على الإمام علي بن أبي طالب في المساجد. إذاً فالردة كانت تستخدم سياسياً ضد الجماعات، ونادراً ما كانت توجه لأفراد بعينهم، على عكس واقعنا المعاصر، حيث باتت الردة مصلتة على ذوي الرأي الحر من المفكرين والكتاب. إعمال الضوابط لم يعد كما كان عليه الأمر من قبل، فعندما يطرح أي باحث رأياً جديداً يثير الجدل، فإن المتعصبين – واستناداً إلى مفهوم الاحتساب - يتجهون إلى مخاصمته قضائياً دون محاورته فكرياً، وبرغم أن هذا الباحث أو ذاك ممن يواجهون بتهمة “الردة “ يعلن احترامه للإسلام ويؤكد التمسك بثوابته، إلا أن المتعصبين يتمسكون من جهتهم بتأويلهم لأفكاره، مطالبين بالحكم عليه، وإذا تعذر الأمر بادر بعضهم لاغتيال المتهم “خارج العدالة”، كما حدث مع فرج فودة في مصر، وجار الله عمر في اليمن. قضية المدون السعيدي بين أيدينا، لا تخرج عن هذا السياق، فالرجل بحسب المعلومات المتوافرة، يعمل مديراً عاماً للموازنة والتخطيط في أمانة مجلس القضاء الأعلى في اليمن، وبحكم موقعه، فإن بعض زملائه ممن اختلف معهم في شئون العمل، قد استغلوا ما ينشره على صفحته، وقدموا ضده بلاغاً كيدياً، ما جعل قضيته منظورة حالياً أمام محكمة الصحافة. وإذ يخشى السعيدي من التأويل السلبي لأفكاره المنشورة، فقد بادر إلى الاعتذار عنها، وهو ما يعني براءته من التهم المنسوبة إليه، وفقاً للفقه التقليدي ذاته. لا مناص إذاً من تبرئة السعيدي، إن أحسنا الظن بالقاضي والقضاء، أما الحكم بخلاف ذلك، فسيفرض قراءة المشهد من زاوية أخرى!. نص الاعتذار: إخواني وأصدقائي الكرام بشأن ما كان منشور على حائط صفحتي هذه على الفيس بوك من بحوث كنت قد كتبتها والتي قمت بحذفها في اليوم الأول من الأمس لتراجعي عما تضمنته هذه البحوث مما كنت قد تبنيته فيها من آراء وأفكار, وذلك لسد أي باب للفتنة والتشكيك في عقيدتنا وثوابتنا في كتاب الله وسنة رسوله وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان وهم الذين رضوا عن الله ورضي الله عنهم وسخرهم سبحانه وتعالى لحمل رسالته من بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) لتبليغها ونشرها في أصقاع الأرض, فلا يجوز لنا إلا أن نرضى عنهم وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه مصداقاً لقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة : 100]} نسأل الله تعالى أن يجعلنا وذريتنا ممن تبعهم بإحسان إنه سميع مجيب الدعاء. ونتيجة لعدم تمكني من حذف هذه البحوث من المواقع الإلكترونية التي سبق وأن نشرتها عليها في الإنترنت, فقد قمت بتحرير هذا لإبلاغ الجميع أني قد تبرأت مما كنت قد تبنيته فيها من آراء وأفكار توبةً إلى الله مما جهلنا به ورجوعاً واكتفاءً بما جاءنا من (الله سبحانه وتعالى) الواحد الأحد الفرد الصمد و(محمد) رسول الله وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام. ونسأل الله أن يتقبل منا وهو حسبنا ونعم الوكيل. علي السعيدي [email protected] رابط المقال على الفيس بوك