ذات مرة اقترح بعض مستشاريّ الزعيم الفرنسي الجنرال شارل ديجول اعتقال الفيلسوف والمفكر الوجودي جان بول سارتر؛ لأنه كما يقول مستشارو الرئيس: «يحرّض الطلاب وطبقات العمال على التظاهرات، بالإشارة إلى (انتفاضة الطلاب في فرنسا والمتمثلة في تظاهرات 1968م)، وهذا من شأنه إحداث قلاقل»، حد زعم المستشارين بالوشاية بسارتر. لتتصوروا معي ماذا كان رد الرئيس الجنرال شارل ديجول حينها - وهنا تكمن حكمته وثقافته السياسية إن لم أقل شخصية الإنسان فيه – متمثلة في رده الحكيم على مستشاريه عندما رأوا ضرورة اعتقال مثقف ومفكر بحجم سارتر. فقد اكتفى ديجول برفض مبدأ اعتقال سارتر مترجماً ذلك بسرعة بديهة وببلاغة عميقة المعنى والدلالة موجهاً وساخراً من غباء مستشاريه بالقول: «إنكم بصنيع كهذا كما لو تريدونني أن أعتقل فرنسا بكاملها». مواقف كهذه أو تلك قد لا تتأتى سوى لقلة ممن يجدر بهم أن يكونوا بحق أصحاب قرار أو زعماء حقيقيين وكاريزميين لشعوبهم، وفي لحظة ما قد لا تتكرر من لحظات التاريخ الفارقة. كما قد تبرز دلالات شواهد ومواقف إيجابية بعينها تكون علامة على رجاحة العقل لدى هذا القائد أو ذاك، وهذا قد لا يحدث سوى في الندرة في بلداننا؛ نظراً للمعطى الثقافي المختلف والمنطق السياسي لهذا أو ذاك من الزعماء، وبخاصة فيما يتعلق بالشأن الوطني. وبخاصة إذ تتجلى سمات اختلاف أحدهم عن الآخر تميزه بما لا يقاس عن نظير آخر له مستبد في بلد من البلدان. لنقل حدث هذا في «عهد» أحد زعماء فرنسا الديجولية نسبة إلى ديجول أو ديغول، والذي رغم ما شاب بعض ملامح مرحلة حكمه من التباس وسطوة استعمارية على الأقل من وجهة نظر بعض مناوئيه، وبصرف النظر عن الرؤية الاستعمارية لمطامع تلك الحقبة.إلا أن ديجول بقي في حال مواقف كهذه خاض فيها وإن على الصعيد الوطني ما كان منها يتطلب الحسم برؤية سياسية غير متسرعة حكيماً كما بدا في موقف شهير له كهذا، وبثقة تقدر مجتمعها ومفكريها خارج الاستئثار بهيلمان ما يكونه داخل «بزة الزعيم أو العسكري». في حال مواقف كهذه يمكننا أن نستقي كيف يفكر الآخرون إذ يحكمون، كيف نظر ديجول مثلاً بعين ترى في ذات اللحظة إلى مصلحة فرنسا وشعبها فوق كل شعار، واعتبار أو مصلحة ضيقة على الصعيد الوطني. وهي نظرة غالباً في مجتمع غربي أوروبي بنت على تقاليد وتراكم سياسي واجتماعي مدني وعياً وتضحيات وعي، بعد تجاوزها لحروب دامية يأمل المرء أن تتجاوزها شعوب وبلدان المنطقة العربية التي تشتبك فيها عوامل شتى متناقضة، وليأخذوا دروساً من زعامات وديكتاتوريات تقتل شعوبها لاتزال.فيما كانت ولازال بعض تقاليد الحكم في المجتمع الأوروبي تقدر شعوبها وتضحياتها وثوراتها بما في ذلك دور ومواقف المثقفين وكتاب الرأي والفلاسفة والصحفيين والناشطين من أصحاب الفكر والأنوار. كان ذلك في فترة عزم خلالها المفكر والفيلسوف الوجودي جان بول سارتر على ترتيب مظاهرة لحشد من العمال والطلاب ومهمشي فرنسا في باريس وحثه على المطالبة بحقوقهم حسب دستور الجمهورية الفرنسية التي أنهضتها الثورة الثقافية بتضحيات كبيرة على أساس مبدأ المساواة والعدل والإخاء والتعددية في إصلاح مسار الجمهوريات في فرنسا الواحدة تلو الأخرى، لتستقيم بذلك نداءات روسو في «العقد الاجتماعي» وأفكار فولتير ومونتسكيو، ومبادىء حرية ما بعد ثورة الباستيل. الأمر ذاته عكس حالاً من التراكم الإيجابي في ثقافة احترام رواد التنوير في أوروبا بدلاً من زجهم في السجون، ولأن سارتر كان وهو من هو في الشارع الثقافي والوجدان الفرنسي حينذاك كرمز وعنوان للفكر والفلسفة الوجودية وواضع لبنة مفهوم الالتزام بالمعنى الأيديولوجي والسياسي على صعيد النضال من أجل شعب فرنسا وغيره من شعوب العالم عبر التأثر بالفكر وبما امتلكته فلسفة سارتر من إعطاء نزعة إنسانية في بعض الأحيان لانتهاج الشعوب الأخرى «كفاحها» بطرق سلمية. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك