عندما تتحوّل الحياة في عقولنا إلى صندوقٍ مغلق ,فلن يتمكّن أحدٌ من إخراجنا منه إلا أنفسنا ,تلك العقول التي بَنت بداخلها الأسوار والحواجز حتى باتت محاصرةً غير قادرةٍ على التفكير والإنجاز والإنتاج ,وكم نسمع يومياً من كلمات اليأس ما يقتل فينا روح الإنسان الخلاقة وكم نشاهد من مناظر تُعلي أسوار اليأس في عقولنا وجوارحنا ,وكم ننطق بكلمات تخنق زهرة الحياة في النفوس حتى تذبل وتموت. اليأس ..هو ذلك الوحش الذي يتربص بمجتمعنا فمنذ الطفولة نزرع اليأس حول مهد الصغير حتى إذا كبر وشبّ عن الطوق وحاول قطع تلك الأعشاب الخبيثة بالتفاؤل والأمل في الحياة والطموح للمستقبل حطّمنا عُدّته ب.. مافي فايدة؟ ماذا ستفعل أكثر مما فعل من سبقوك؟ مثلك مثل غيرك..! لست أفضل من ابن عمك..! لا تطالع بعيد وخلك واقعي...! جُمل إنشائية مشحونةٌ باليأس والخضوع للواقع وسلبياته لها مفعول المعاول الهدامة التي تهوي على بناءٍ ضخم فتجعله قاعاً صفصفاً .. حتى إذا كبر ذلك الفتى وخبت جذوة آماله عضّ أصابع الندم فتجده يواسي نفسه بإلقاء اللوم على الآخرين من أهل أو حكومة أو ظروف أو تعليق ما فاته على قضاء الله وقدره بعد أن فرّط وتوانى في بذل جهده وطاقته ,ومع ذلك تجده يعيد نفس المشهد مع أبنائه..وكأن اليأس بات صفةً وراثية تنتقل عبر جينات أفراد المجتمع. رويَ عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يعجبه الفأل الحسن ,ويقول صلى الله عليه وسلم : (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).. وهل هناك وقتٌ يجتمع فيه اليأس من الحياة والدنيا وجني ثمار العمل والخوف والرهبة مثلما يجتمع في وقت قيام الساعة؟..فيالها من صورة نبويّة محفِّزة تدعو للتفاؤل والعمل للغد. اليأس ثوبٌ يرتديه المثبِطون والكُسالى والمحبُطون..ثوبٌ يتلوّن بألوانٍ عدة ,تارةً باسم القناعة المتلبِّسة بالزهد في الدنيا ,فيظن من يرتديه بأنه الأكثر ديناً وأجراً وثواباً وأقل حظاً من الدنيا ,والذي قد تجده يتعلّق بها في مواطن أخرى...متّهماً من يعمل بجدٍ وإيجابية بتهالكه على الدنيا طالباً إياها ,أوَليست الدنيا مزرعةً للآخرة وكل ما نزرعه هنا نحصده هناك حتى لو كان في متعتنا الحلال. وتارةً تجد ثوب اليأس يتشكّل في هيئةِ إحباطٍ واكتئاب نتيجة انغلاق الأبواب وانسداد ضوء الشمس ,بينما بإمكان من يرتديه أن يخلعه بإيقاد شمعةٍ من الداخل تضيء الظلام وتدلّه على الطريق وتمنحه مفتاحاً ,يشرِّع به الأبواب المقفلة والنوافذ المسدودة ويقفز به فوق الحواجز العالية في سباقٍ يزيده أملا في النجاح ,فالجهود البسيطة تنتج إنجازاتٍ كبيرة في المستقبل. وتارةً تجد ثوب اليأس مطرّزاً بذكريات الماضي وأمجاده صاحبه لا يريد مواجهة المستقبل , يرتدّ إلى الوراء دائماً يؤاكل الأمس ويشاربه حتى يزيده همّاً وكمداً دون أن يدرك بأن الماضي لا يعود وأن الحاضر لا يقتات على فتات الموتى وأن المستقبل لا يُبنى بلبنات الذكريات. وتارة ترى ثوب اليأس يتلوّن بلونٍ آخر ,يحصر حلّ كل المشكلات التي تواجه ذلك الشخص أو المجتمع في حلٍّ واحدٍ مستحيلٍ أو شبه مستحيل التحقق ما يحصر رؤيته في ذلك الحل المستحيل ما يزيده همّاً ويأساً,فيفوِّت عليه فرصاً عظيمة في البحث عن أسبابٍ وحلول أخرى تخرجه من أزمته...مثل القول بأن مشاكلنا في الجنوب ستُحلّ متى ما انفصلنا وأنهينا الوحدة واستقلّت دولة الجنوب..قد يكون هذا صحيحاً! ..ولكن هل المجتمع بأفراده ومؤسساته مهيأٌ لذلك؟..وإلى أن يتم تنفيذ هذا الحل فماذا أعددت لما بعده كفرد ومجتمع ؟ وعلى من نعوِّل في الإمساك بزمام البلاد وعدم إنفراط استقرارها؟ ومن يضمن لنا أن البلاد لن يتدهوّر حالها أكثر بوجود الفاسدين والمرتزقة والطامعين والمتواكلين والكسالى واليائسين ممن يكتظُّ بهم مجتمعنا ؟..أليس الأجدر بنا سلوك طرقاً مختلفة ومتنوِّعة ننفض بها الغبار عن عقولنا وقلوبنا لتوصلنا إلى ما نريده ولو بعد حين بدلاً من الجلوس وانتظار حلٍ قد يحدث وقد لا يحدث ؟ إن مواجهة الواقع بالشرب من كأس اليأس ومحاولة نسيان المسؤولية الشخصية و الاجتماعية ..تجعل المجتمع ثَمِلاً يعيش في غفلةٍ متهالكاً ميتاً يتخبَّطُ في مشيه تائهاً لا يرى حاضراً ولا مستقبلاً بين حياةٍ بلا معنى وموت محتّم. في الظل.. إذا كنت تحاول لمسَ الشمس ,ووجدتَ الجميع يصرخُ خلفك قائلين: لن تقدر لأن الله قدّر ,حينها تأكّد بأنك ستقدر ,لأن معك القدير! [email protected]