ذات مساء من مارس في العام 1982م ، ذهبت إلى مبنى فرع الأمن الوطني بتعز لتسليم نفسي طوعاً ، بعد اعتقال رفيقين لي في عضوية خلية تابعة لمنظمة المقاومين الثوريين ، في الطريق إلى غرف التحقيق كانت صرخات المعتقلين تثير في نفسي الرعب الممزوج بحيرة عن هذه البشاعة في أنواع مختلفة للتعذيب. في تلك الفترة لم أكن معتاداً على السهر بعد العاشرة مساءً ، لكني أجبرت تلك الليلة على السهر حتى أذان الفجر ، كانت ليلة مرهقة لنفسي ومشاعرها المضطربة إزاء الوضع غير المعهود ، ومرهقة لجسدي بالسهر المفروض علي بقوة الإجابة المكتوبة على أسئلة المحقق ولعقلي المشحون بالأسئلة عن أفراد مستسلمين بغير مقاومة لأفراد يضربونهم بوحشية. لا تزال صورة احد الضحايا حية في الذاكرة كما شاهدتها أول مرة ، كان أحد المعتقلين يصرخ بألم مسكون بالقهر ، واثنين من عتاولة التعذيب يضغطون باب الغرفة على جسده المسند إلى الجدار وهو مستسلم بانكسار غريب بين عينيه ظل يلازم وجهه طيلة رفقتنا بالمعتقل المغلق بإحكام عن ضوء الخارج ، ولأني سلمت نفسي فقد نجوت من التعذيب في أول ليالي الاعتقال. رُميت في السجن أسبوعا كاملاً عُوملت فيه من السجناء بقسوة لامبرر لها والابتعاد عني كمصاب بالجرب ، بعد أول ليلة عدت فيها إلى المعتقل متكوماً على نفسي مخنوق الأنين ، اكتشفت أن رفاق السجن ظنوني مندساً للتجسس عليهم فابتعدوا عني ، ربما لهذا السبب تكمن الحسنة الوحيدة للتعذيب باعتبارها جواز السفر إلى صحبة رفاق المعتقل. لم يكن ضابط التحقيق مضطرا إلى تعذيبي ، لأني سلمت نفسي طوعاً، وتطابق اعترافي بما قاله زميلي سابقاً ، حتى سنحت له الفرصة التي ينتظرها لممارسة وظيفته في التعذيب ، سألني لماذا لم أذكر له اسمي التنظيمي فقلت له لأنني لا أمتلك غير اسمي فقط، عندها مد يده إلى زاوية المكتب وأخذ منه جزءاً من كابل كهربائي وبدأ بجلدي حتى تعب من ذلك فاستراح قليلاً ليواصل الجلد بخيزران ، ثم انتقل إلى وسيلة أخرى كنا نسميها القاووق ، وفيها تُعلق مربوطاً على عصا بين مكتبين لساعات تكفي لفقد إحساسك بذراعيك وساقيك , وكان صراخ الضحايا يزيدني رعباً وحيرة. لم يكن التعذيب مبرراً باعتباره وسيلة للحصول على المعلومات من المعتقلين ، فأنا، مثلاً ورفيقي ، عندما ذكرنا من نعرفهم من أعضاء الجبهة ، كنا لا نعرف سوى الأسماء التنظيمية ، وهذه المعلومة صدقها ضابط التحقيق فزودنا بالأسماء الحقيقية لكل هؤلاء، لكن رغبته في التعذيب كانت من صميم عمله الوظيفي ، لتحطيم روح التطلع السياسي في نفس ووعي المعتقل ، ففي كل حالات التحقيق والتعذيب التي شاهدتها ، كان المحقق يحرص على امتهان واحتقار الضحية ، وتحقير فكره السياسي وطموحه الوطني بشكل خاص. ماهي الجريمة التي كافحها الأمن الوطني في تلك الفترة؟ إنها جريمة التحزب المحظور حينها بغير قانون وعدالة ، وكانت أدلة إثبات الاتهام هي الكتب التي يجدونها في حوزة المعتقل وتخص فكر الحزب الذي ينتمي إليه وأدبياته التنظيمية ، وهكذا كانت القراءة السياسية جريمة لا يعاقب عليها القانون وسلطة القضاء وإنما يتكفل الأمن الوطني بالتنكيل بأهلها ، تعذيباً وامتهاناً ، وبعد ذلك إقصاءً وحرماناً من الوظيفة العامة والحقوق ، بما فيها حق السفر للخارج من أجل التعليم أو العلاج. اليوم ، تبدو تلك الفظاعات جزء من تاريخ أليم ن لكنها في ذاكرة التاريخ مرحلة لم تكن بشعة بجرائم البطش والاعتقال وفواحش القهر التعذيب فحسب بل بدافعها الاستراتيجي لتكريس الجهل السياسي ومصادرة حق الإنسان في المعرفة والنشاط ، وقد نجحت هذه المرحلة فعلاً في إفقار الوطن من كوادره المؤهلة بعلوم العصر وجديد الفكر الخاص بالمجال السياسي ، لقد كافح الأمن الوطني كل محاولة للمعرفة وكل تطلع للوعي ، فنكل بمن حاول الاطلاع، وأرهب الآخرين الذين استحبوا الجهل طمعاً في النجاة من جحيم القهر والتنكيل في أقبية الأمن الوطني ، وبهذا تسلط الجهل واستبد التخلف والفساد. أتذكر هذا الرعب في مرحلة تعدنا بالعدالة الانتقالية ، لأقول إن المطلوب من العدالة الانتقالية إدانته وتجريمه هو السلوك الذي مارسته أجهزة أمن الوطن والدولة بغير سند قانوني، وبدون سلطان قضائي ، إذ كان ممكناً لسلطات تلك المرحلة مكافحة الحزبية بالقانون وسلطة القضاء ، لكن القانون والعدالة لا يسمحان بالتجهيل السياسي ولا يعاقبان على المعرفة والاطلاع ، لذلك نأى القمع بسلطاته عن القانون ، فأوصلنا بسياسة الجهل والخوف إلى الفساد الشامل والتأزم الذي كاد أن يفجر الوطن والدولة ، وها قد فتحنا ثغرة للنور بمؤتمر المعرفة والحوار، فلتكن العدالة الانتقالية وسيلتنا إلى تامين الغد من أنين ضحايا التجهيل الرسمي والتعذيب الأمني. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك