عبد الوهاب قطران أنا لم أوقع عقدًا مع الحياة. لم أجلس على طاولة الكون لأُدلي برأيي في وجودي. جئتُ كما تسقط السماء قطرة في عرض المحيط، تائهة لا تعرف الشاطىء ولا السؤال. لم أختر أن أكون ،فكيف يطلب منّي أن أكون كما يريدون؟ لم أكن شاهدًا حين قرر اسمي، ولا كنت موجودًا حين قُررت القبيلة، أو حين خُتم على جبيني بختم الطبقة، والجنسية، والمكان والزمان. أُخرجت من العدم كما يُقتلع حجر من جوف الجبل، لا رأي لي في الزمان الذي نزلت فيه، ولا المكان الذي تسلّمت فيه أول شهقة هواء. لم أُسهم في هندسة سلالتي، ولا وضعتُ أصبعي على خريطة اليمن لأقول: هنا أُولد، وهنا أكبر، وهنا أُقذف إلى الحياة مثل سهمٍ طائش في عاصفة. لم أختر المدرسة التي دخلتُها، ولا الطباشير الذي علّمني أول الحروف، ولا المدرّسين الذين زرعوا في رأسي أسلاك الطاعة، ولا المقاعد التي شهدت أول خيبتي، وأول عزوفي عن كل شيء. لم أختر نمط العيش في طفولتي، ولا القيم التي تشبّعت بها بالوراثة، ولا الأغاني التي شكّلت وجداني، ولا صور القادة على الجدران، ولا الشعارات التي كانت تُدلق في أذني بطابور الصباح بمعهد التوفيق كما يُسكب الزيت على النار. لم أختر الظرف، ولا الطريق، ولا المنعطفات التي زُرعت دون إذني. لم أُمهل لحظة لأفكر في مهنتي، ولا في مسؤولياتي، ولا في ثقل السنين الذي ألقته الحياة على كتفي كما تُلقي الجبال ظلها على الوادي. أنا الذي جنى عليّ أبي، لا لأنه أراد بي شرًّا، بل لأنه سلّمني ميراثًا لم أختره، وقلت: نعم. ثم كرّرتُ العبء ذاته وجنيت على خمسة أولاد، أحببتهم أكثر مما أحببت نفسي، لكنني لم أكن حرًا حتى في أن أمنحهم ما لم يُمنح لي. كل ما فيّ حُفر قبل أن أبدأ. حتى أحلامي كانت مسروقة من قبلي، مزروعة في رأسي كألغام نائمة، أحلام لا تشبهني. ولا تشبه الطريق. ورغم ذلك، لم أركع. لم أبيع كرامتي على رصيف الأوهام. لم أتسوّل شيئًا من أحد. ولم أجعل من أوجاعي أداة للاستعطاف. أنا رجلٌ يكتب وجعه كما تكتب الجبال صمتها، رجلٌ حين يُخدَش، لا يصيح بل ينزف قصيدة. رجلٌ حين يُظلم، لا يطلب الرحمة. بل يواجه الكون بصدره العالي. فأين هي حرية الإنسان المزعومة؟ أين العدالة في أن يُحاسَب المرء على حياة لم يختر ملامحها؟ أين المساواة؟ حين يولد أحدهم على وسادة من حرير، ويولد الآخر على حجرٍ في العراء؟ لم أكن ضعيفًا يومًا، لكنني كنت مدركًا لكل ما فُرض عليّ. مدركًا أن هذا العالم ليس ساحة عدل، بل مسرحًا كبيرًا تُصفّق فيه الجماهير للطغاة والمجرمين، وتُقصى فيه العقول الحرة إلى هامش الحكاية. أنا لست ضحية. أنا شاهد. شاهد على قرونٍ من التزوير، وشاهد على شعبٍ يُسلَب كل يوم تحت رايات الكذب. وشاهد على نفسي، كيف مضيتُ رغم الريح، رغم الضيق، رغم صمت العالم. لهذا، لن ألوذ بالصمت. سأكتب، وأشهد، وأترك أثرًا فوق جدار الحياة، يقول: هنا كان رجلٌ لم يُمنح شيئًا، لكنّه اختار أن يكون صوتًا حرًّا في زمن الخضوع. وعلمًا مرفوعًا من كبرياء لا تنحني... إلا لخالقها.