رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    تعرف على أبرز المعلومات عن قاعدة "هشتم شكاري" الجوية التي قصفتها إسرائيل في أصفهان بإيران    أمن عدن يُحبط تهريب "سموم بيضاء" ويُنقذ الأرواح!    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    حالة وفاة واحدة.. اليمن يتجاوز المنخفض الجوي بأقل الخسائر وسط توجيهات ومتابعات حثيثة للرئيس العليمي    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    ايران تنفي تعرضها لأي هجوم وإسرائيل لم تتبنى أي ضربات على طهران    خطوات هامة نحو تغيير المعادلة في سهل وساحل تهامة في سبيل الاستقلال!!    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    برشلونة يسعى للحفاظ على فيليكس    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    الرد الاسرائيلي على ايران..."كذبة بكذبة"    الجنوب يفكّك مخططا تجسسيا حوثيا.. ضربة جديدة للمليشيات    اشتباكات قبلية عنيفة عقب جريمة بشعة ارتكبها مواطن بحق عدد من أقاربه جنوبي اليمن    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    مسيرة الهدم والدمار الإمامية من الجزار وحتى الحوثي (الحلقة الثامنة)    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    استدرجوه من الضالع لسرقة سيارته .. مقتل مواطن على يد عصابة ورمي جثته في صنعاء    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    مركز الإنذار المبكر يحذر من استمرار تأثير المنخفض الجوي    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحب بقلم : محمد يوسف جبارين
نشر في الجنوب ميديا يوم 14 - 02 - 2014


الحب
بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم ..فلسطين
وقمنا الى وهم من راحة من عناق توهمناها فتعانقنا وغرقنا في ثنايا الهوى وارتحنا ، لنا العذر فما اقتدرنا ، أحضان الهوى غلبتنا ، وأفقنا وقت الظهيرة وعدنا نسبح في عيون الهوى وغرقنا ، ولم نسأل متى نفيق لكنا أفقنا ، وهمسنا بطيب الكلام وذبنا ، أرحنا من اغتسال بوهج العيون ، وما انتبهنا الى الشفاه تملس على الخدود ، تذوب وتذوبنا ، وسألنا ماذا بنا والوعي يتوه عنا ، يغرب هاربا منا ، كأنا اذا أردنا أن نحيا فعليه أن يبتعد عنا ، وما بين جوع لا ينطفىء وجوع يأبى الا أن يتبدى ، قمنا الى ماء ومأكل ، فاذا هو الشراب من الصدر يتدلى ، رمان شرابه لم يدعني أتأنى ، نسينا ما قمنا له وعدنا ، نتغذى على هيام والآهات منا تتندى ، نفيق ونغفو كلما صحونا .
وبين نحن بالغرام نتغطى ، وبين نبض الهيام في حسنا يتغنى ، تدلت شفاه عطرك تفوح بأريجها تتدلى : يا حبيبي ، ألا ترى بأنا ، من يوم أن غرقنا في بحور فراش الهناء ، لم نعرف لكلمة الجوى في نبضنا معنى ، ومثلها حرقة الفؤاد غادرتنا ، وغدونا نتساءل أيان هاجرت ، ونسمع عنها وما من همس لها في عروقنا عرفنا ، فما أن تدق على بابنا أنامل عطش لعناق ، حتى نكون قد ارتوينا ، وما أن يرف جفن جوع في شفاهنا حتى يفر منا ، فأين الحرائق ، والأنفاس لاهثة على حرارتها تتقلى ، تأخذها اللهفة تلو لهفة ، وهذا جفني مثل جفنك ، ترى فيه الارتواء فارشا ظلاله بكل عطر وردة ، لم يعد يعرف دمعة شوق حرى منه تتندى ، قيل في سير العشاق بأن لوعة الفراق ونار الشوق بها قرب من الحبيب يضيف لعناق الشفاه حين تلتقى معنى ، أي معنى ، لهيب يستعر فيها ، وتنزل من العين دمعة هناء تتغنى ، يا حبيبي فكل هذا ما عرفناه في عش الغرام مذ كان لنا مهدا ، فما قولك بأن ندري معنى غاب عنا ، ببعاد به نتحرق ، ونشقى بلوعة عشق كنا عرفناها ، من أول يوم فيه على أجنحة الحب رقصنا .
وما أمكنني يا حبيبتي ، الا أن أصيخ السمع للورد يحدثني ، بأمطار من عطر تجرفني الى غرق أحبه طيبا في حرارة أنفاسك ، بقيت أتورد بحرارة تفيض عشقا من ألفاظك ، واذ ذاك ، وكما هي أناملي ، تعرفيها وتحفظين سيرتها ، تناهت تستسقي الموسيقى من لمسات خفيفة تمر بها على أوتار بهاء تموج بها أنحائك ، واذا هي رموش عينيك تداني برقتها ، تود أن تعانق رموش عيوني ، ثم بنان الابهام من يدك اليمنى راح يملس على شفتي ، وانشغل في كتابة اسمك واسمي ، وأحبك يا حبيبي على خدودي ، ومشت حرارة من شفتيك في شفتي ، وهي تهمس بناعم من نسيم سرى في كلمات نسيجها حلو ، قلت : ألا تذكرها لواعج الأشواق حين كانت تضج بالحرارة ما بين أقطارنا أيام خطوبتنا ، فأين ترانا الآن نلقاها فنحسها ، هل تراها منشأها لا يكون بغير بعاد يتلهف على تجاوز المسافات ، فها أنا ريانة وأنت ريان ، لا يخطنا عطش أو جوع ، فأنا وأنت معا مائدة الحب ، بنا يدلل الحب على ما هو ، وما يمكنه أن يفعل بالانسان وعلى أي وجه يرسيه ، فكلانا يفترشنا ارتواء ، فهل بدايات الحب ليست مثل غاياته ، فحين راح يحتلنا ، هاج بنا بكل حريق ، فتناهى الى ما يرنو اليه ، وهو ما نحن فيه الآن وما نؤول اليه ، فكيف ترانا نحس برقا ورعدا وعواصف ترعش بها منا الأرجاء .
وما أدري كيف أن امارات وجهك استحضرت قولي لك : وهل تراه اللاجىء بعد عودته الى بيته وبيارته ، وشمسه وقمره وهوائه ومائه ، يتوق لمشاعر من معاناة غربة هاجت به كل وقته الى يوم فيه يعود ، فالعودة زفاف عائد الى وطنه ، يعود يحرث التراب ، يسقي الزرع ماء ، يقطف ثمار زرعه ، يحيا بطمأنينة في فراش غرام يجمعه مع انثاه في وطنه ، ويفيض الغرام بما به بالحياة تتدفق في ربوع الوطن ، رخاء وأمنا ، وديمومية اصرار على توافر الهناء والصفاء ، فكيف يا حبيبتي نغادر الأحضان لفترة من وقت ، لكي نجد الأحضان أهنأ وأعمق سياحة وأغنى ، فأنا لا أرى داعيا يدعوني الى تناه الى سفر أضمن به بعدا عنك ، ومنه أطل عليك ، بحافر الرغبة بأن أعود اليك ملوعا بحرارة بها أتلظى ، يكفيني ما أنا فيه من غرق في ثنايا بحورك أنهل منها العطر وأغرق وأتندى من الهناء ما به أتجلى .
فجاء ردك - يا ويحي - كيف نبست شفتاي ببعاد ، وهل أنا على بعاد لحظة منك أقوى ، أيكون العطر يهب نسائم من طيب كل آن على أنفاسي وأصبح ولفح قيظ الشوق الى همساتك يلاعبني ، فكيف دغدغاتك لي تفارقني لحظة ، فماذا دعاني الى قولي كلمة البعاد هذه ، من أين جاءت ونزلت على طرف لساني ، كيف اتخذت لها مكانا تكونت فيه في ذهني ، ماذا جعلني أرتضي أن أفوهها ، يا له فمي سبقني الى قول ما لا أريد أن أقوله .
لكن هذا كله يعني بأن شيئا ما لا اراديا يأخذني فما هو ، لعلي تذكرت أيام انتظرت أن ألتقيك في عش الغرام ، لاهثة ، أتلهف لهفة تلو لهفة ، كانت أنفاسي تحرقني ، وأحس من شدة شوقي بأني آيلة الى بخار ، وأتخيل نفسي كذلك بخارا يتطايرا في الهواء ويعلو ويعلو ، وأقول يا ليت أنه يتزل على حبيبي ويعانقه ويقول له أحرقتني وأحلتني بخارا ، وأحيانا كنت أحس بأني أريد أن أكسر كل قيد اجتماعي وأفر اليك ، كان ذلك مرات ومرات ، فمرة وأنا أقارب النوم وهو يفر مني ، لم أعد عندها أطيق نفسي على حال من بعاد عنك ، فكدت أغادر البيت الا أن شيئا ما قال انتظري وعدت ، ومرة دنوت من أمي وقلت لها وكانت نيران شوقي تحرقني ، قلت يا اماه اني في شوق الى حبيبي ، قالت : اني أفهمك يا بنيتي ، فلقد كان حالي بمثل حالك الذي تصفينه لي وأنت الآن عليه فصابري نفسك يا بنية ، حتى يأتيك حبيبك في وقت قريب ، قلت : يا أمي ، لماذا لا أملك لنفسي سيطرة على نفسي في كل ما له صلة بحبي ، قالت : كذلك الحب أقوى قوة في الحياة، فهي بعينها ملك الحب ، فكيف لا يكون شأنك على هكذا حال ، وأنت بنت أمك ، قومي من أمامي واسكبي نفسك في الكلمات ، كما كنت أفعل ، فحرارة الشوق تعرف حروفها ، وليس مثلها قلوب مشوية بنار الحب تجيد الربط بين حروف اللغة ، في نسيج همسات النفس الولهانه ، وهي تناجي حبيبها على البعد والقرب ، قومي يا بنيتي ، واكتبي ، وارفعي سماعة الهاتف ، واقرائي على حبيبك ما فاضت به نفسك المولهة بالغرام .
ونهضت من فوري ، وركضت الى خارج الدار وهناك على مقعد تحت شجرة وارفة الظلال جلست ، أتذكر كلماتك الحلوة التي يا طالما كنت تلهب بها أنفاسي وأنت جالس بجانبي ، وتغني لي تارة ، وأخرى أسألك ما صمتك عن الشدو بأحلى الكلام ، فتقول لي : اني أحب أن أسمع البلابل وهي تغني ، فأهيم بهمس مني، بكلمات تشجيني وتلملم نفسي بين طياتها وأنا أقولها ، وأنظر اليك ، فاذا أنت سابح في نشوى ولا تنزل عيناك مني ، ويا لسعادتي وأن أقرأ في عينيك رغبتك بأن تضمني وتغرق في بحري ، كنت أحس هذا موجات من هناء تسبح بين جوانحي ، وأنتشي ، أحس بأني أحلق في أجواء من نعيم ، وتسألني عن هيامي ، وأقول لك ، بأني مشتاقة الى يوم زفافي ، فلماذا ننتظر ترتيبات اعتاد عليها الناس ولم تكن حواء ولا آدم يعرفان عنها شيئا ، فها نحن نلتقي لنحترق شوقا الى بعضنا البعض ، ويا ما أروع أن أشتاق اليك وأنت تشتاق لي ، وكلانا يفتش في عيون الآخر عن سعادته ، وأتذكر عندها بأنك قلت لي: يا شروق موعدنا الغرام ، تحت ظلال الغرام ، وها هو الحريق الذي يقدمه لنا الغرام ، أنا مغرم وأنت مغرمة وكلانا بالغرام يحترق ،
فكل ذلك تهادى في أنفاسي حرارة شوق اليك ، وأكثر منه يا حبيبي ، فتحت الشجرة التي أسميناها ظلال الغرام ، تراءيت لي ، فكأنك أمامي ، أقول لك وتقول لي وأتماثل أناملك وهي تلملم شعري ، وتمر بأطرافها وراء أذني برقة ، وتكتب على رقبتي اسمي وأحبك ، فكأني قيثارة تضرب على أوتارها بمهارة ، فتضج بي موسيقى توقد في عيوني شهوة تقرأها في عيوني ، وفي شفاهي ، وخدودي ، أغدو شهية ندية وبي لهفة أن تأخذني ، فيا ما أروعه الخيال وهو يؤدي لنا خدمة مجانية في استحضار الحبيب ، تماثلتك ، فغمرتني مشاعر دافئة ريانة بكل ما هو رائع وجميل ، فاستسقيتها ، فتندت قطرات قطرات من هناء ، وبقلم أودعته عندي ، كتبت ما جاشت به مشاعري ، في دفتر أفردته لكل ما يصلني بحبي ، ونهضت من فوري الى البيت ، أتمايل ، أتهادى الى غرفتي ، وأنت في مخيالي ، تملأني ، ورفعت سماعة الهاتف ، وجاءني صوتك : موجات متلاحقة من دفء سرت في عروقي .
سبقتني الى اشعال الحرائق في أنحائي : (غدوت وترا ، أوتارا ، وأنامل صورتك التي أمامي تضرب ألحانها كيفما يحلو لها ، فكأني أغنية تفتش عن حروفها على وقع موسيقى هي ملامحك القتانة التي تنطق بها الصورة ، وتزجيني على هيام من ذوبان في صفاء في عينيك ، وفي رقة عطر ألملمه من سناء ملاسة في خديك ، ومن موج شهوة تضرب عاصفة في شفتيك ، ألملمها بأطراف شفتي وأذوب في غمرة من حس ، أغدو بموجاته أدور بأهواء عاصفة من عشق تعصف بي ، تحملني على أكفها وتسرح بعيوني في مفاتن أتملاها من صورة تلو أخرى ، أفتش في حناياها عن هذا السحر الذي لا ينفك يمتلكني ، ولا يتركني مرة بلا ذوبان في رقة من هيئة ملأى بأنوثة لا يملك مثلي من أمره في مثل حال كهذا الا أن يهيم اليها ملبيا نداءها ، فلا أجمل ولا أحلى ولا أرق منها أنوثة تحدثني ، فيا ويحي ماذا كان يمكني أن أفعل بلا هذه الأنوثة الصاخبة التي تتهادى في شارع من شوارع القدس وتقول بكل صيحة الأنوثة خذني اليك فاني اليك خذني خذني اليك ، وأمد أطراف أناملي ، ولا أجد بينها سوى الصورة ، فيشب حريق في أرجائي ، أتوه عن نفسي ) .
وأردفت تسألني عن رأي لي في كتابات لك أرسلتها لي ، ورسائل غرام أودعت نفسك فيها لتعانق نفسي وأنا أفرأها ، فقلت لك بحرارة ولهانة : ( أنا – يا حبيبي – أقرأ كل كلمة تكتبها ألف مرة ) ، و( تطوف عيناي في كل صورة لك عندي ألف مرة ومرة ) ، فهاج بك الغزل ، فأمطرت حلاوته في أذني ، فكأني على نار شوقي اليك أتقلى، قلت :
(ألف مرة أفتش في كل لحظة في عينيك عن سحر البيان ألف مرة ، ألف مرة يا حبيبتي ، أفتش في عمق الهوى في عينيك عن بديع ينهله حرفي حبرا ، يرسم به اليك هذا العمق الذي أراه في بؤبؤ عينيك ، يا حبيبتي اني أرى الحياة في عمقها تطل من ثنايا هذا البياض الذي يحيط بهذا الذكاء الفارش ملامحه، والبائن من بين رموشك ، أنظره يا حبيبتي ، أحاول أن أقرأ عمق الوجود وعمقي فيك ، عمقك أنت في ملامح حروفي في جوهرها ، أفتش ألف مرة في عينك كل لحظة ، فاتركيها كما هي يا حبيبتي ، ودعيني أنظر فيها ، انشغلي بأي شيء تريدين واتركيني مع عينيك ، فلعلي أفهم سيرة الغرام التي تسيرني بها هذه العيون ، فمن يوم أن أطلت عيونك على عيوني لم أعرف أن أرى سطوري بغيرها ، هي شعلة النور التي أرى بها في نهاري ، فلولاها لكان النهار ظلاما والليل كوابيس ) .
وبينا أنت تشنف أذني بأرق حس وأعذب عبارة ، وتهيج بنفسي ، بحلاوة عشق ترسله من فم كل كلمة تفوهها ، وتعلو بنبض الدم في عروقي ، نظرت في مرآة صغيرة بيدي ، فاذا هي خدودي مثل وردة جورية حمراء ، فقلت لك : يا حبيبي ، تعال خذني اليك ، فهذه الخطوبة بها من لواعج الأشواق والحرائق ما يفنى به العشاق أمثالنا ،
وهذه كلماتي أريد أن أقرأها عليك ، فصابر نفسك دقيقة أو أكثر ، واهدني صمتا في خلاله تسمعني ، فنبست شفتاك بحنان ملتاع : هات من جمالك الفتان عطرا أتعطر به ، فسالت من فم عطري روائحه :
( يا له الحب في عمق ملامحي ، هل رأت عيناك مثل جمالي ، رسا حبي فيك من غير أن تدري ، في عروقك أودعته رقتي وجمالي ، أوصيته أن يظل في حناياك ناشطا ، يجمعني في فكرك و الروح والشريان ، تطيب نفسك بكل صورة لي أبقيتها ، أنت تحبني وأنوثتي تكلمك بذكاء ، فلا كانت مثلي أنثى تصدح بالغناء ، أغني لك أنوثتي وهذا حبي تريده ، فلا تلمني وقد تلكأت عنك أنغامي ، فاني أخشى عليك مني حين تراني ، يفر العقل منك ولا غير أحضاني ، وتودع الوعي منك كل آن فيه تراني ، اني أعرف بأنك تهواني وتهواني ، وتودني أظل بين يديك بأنوثتي وحناني ، تريدني أبقى أغني بأنوثتي وهيامي ، أسكن بين ذراعيك وأبقى بينها زماني ، زمانك أنثى هي أنا وأنت على ضفافي ، كأني قيثارة أوتارها بين أناملك ألحاني ، دعني بين ذراعيك يا حبيبي أغفو ، فيا له الحب يكتبني من غير سؤالي ) ،
وما أن أتممت قراءة ما كنت كتبته في دفتري ، حتى فوجئت لأول وهلة بصمت يضمك تحت جانحيه ، فقلت في نفسي ، فلعلها آثار حروفي في نفسه ، تبحث في داخل هيامه عن سياق من عطر يتهافت به على نثره في أنفاسي ، فقلت أترك له انسراحه حتى يعود منه ، فاذا هو الهناء في ألفاظك يتدفق بك وينساب موسيقى من عطرك الى أذني :
( أنت القيثارة أوتارها تحنو ، وأنت الألحان يا أحلى غناء ، وأنت نهر الحلاوة وعيونها ، أشرب منها صبحي والمساء ، لا تعذريني بصمت يربكني ، فحين عطش فمنك الارتواء ، يا روح الروح اليك روحي ، فهات من عينيك الرواء ، مدي رموشك واتركيها ، فأنا مشتاق اليها والشفاه ، وناوليني من ثغرك ابتسامة ، أساقي بها ملامحي والوفاء ، وهات الورد من خديك أقطفه ، طاب شوقي اليك والعناق ، يأخذني الهوى واني بك متيم ، أهذي ليلي وأسال عنك السماء ، وأغرق فيك في أحلام تشربني ، يا ويلاة متى تلثم شفتي حبة ماء ، تعصف بي صورة أنثى تحبني ، فهنا كانت وكنت ومتى اللقاء ، تراني والجنون بات لا يفارقني ، أم تراه الجنون وأنا والحب سواء ) .
ويا لها من لحظة فارقة بين الشعور ، وبين العقل ، فأول ما انعقدت في أذني كلمة الحب بكلمة الجنون ، حتى أطل عقلي ، يتساءل بزخات من أسئلة ، شاغلتني وحيرتني ، أيام انشغلت في دراسة العلاقة بين الحب والجنون ، ما دعاني الى قولي : هات عن الحب والجنون ، أريد أن أسمع المزيد ، يراودني أحيانا أن الجنون له أشكال متعددة ومنها الحب في أعلى مراتبه ، فاذا الجنون خارج العقل ، ولا حب في العقل ، ولا عقل في الحب ، فكذلك الجنون ، فاذا لم تجد فيه عقلا مثل العقل ، فلا ينفي ذلك بأن ثمة عقلا فيه له فاعلية ووجود ، ومثله الحب فكينونيته بذاتها دالة على فاعلية لها ، وهو ما يدلل على أن ثمة عقلا غير العقل ، فثمة تكافؤ بين الحب والجنون ، أو لربما أبعد من ذلك . وقد لاح لي بأنك حين أحسست بأن علم النفس والفلسفة تأخذني منك ، أبيت الا أن تقطع قولي ، فتهافت بأصداء صور لي كنت أرسلتها اليك :
( انتظري ولا تستعجلي كلماتي ، فأنا تحت زخات من العطر ، تنهمل من صور ثلاث لك جاءت تحيل فصل حياتي الى فصل شتاء ، تحت الأمطار لا أزال اتملي من بوح خدود الورد وشفاه العطر يا جمال أيامي ، فاعذريني في سباحتي في أنوثة تحدثني من خلف بنطال وصدار وتغرقني في الهيام ، مثقل أنا بهذه الرقة التي تقول لي ، هل رأيت مثلي تأثيرا في نفسك في مدى الأيام ، وأهتف لا تكف يا مطر عن الانهمال ، تساقط على نفسي وعقلي ، وانتظرني حتى أملأ الصفحات من مشاعر تتدفق بها الصور في أقلامي ) ،
فلم يمكني وأنت تغتسل بأمطار تنهمر من صور لي الا أن أقول لك :
(نفسي في شوق الى نفسي ، تحملها كلماتك الى نفسي ، تحمل عطرا نهلته حروفك من شفتي ، ومن خدي ، شعري لا زال على كتفيك يبعث في أرجائك موسيقى حبي ، فبرقة وحنان جمعت بذراعي صدرك الى صدري ) ، ما أوزعك على استمطاري ، أردتني مطرا من غرام ينهمل على أذنيك ، وقد سألتني أبضا عن استعمالي لأشياء بديعة كنت أحضرتها لي آخر مرة زرتني فيها ، فعدت أقرأ في دفتري :
(أشياؤك لم تزل في العين يانعة ، تقيل عني بشدوها بعض عناء ، تأخذني والشوق بي اليك يهفو ، وأشرب حروفك حتى ارتواء ، أفترشها وهي وسادتي والغطاء ، تهيم بي شوقا اليك فكأنه يوم لقاء ، هي أنت عندي توقدني بالهناء ، وتبعث بي كل نشوى وارتقاء ، تعلو بها نفسي فريانة وامتلاء ، هات اروني واشبعني من الغناء ، هات قصيدة منك تلامس أعماقي ، اكتب لي كلاما أضمه بأضلاعي ، القصيدة جذوة نفسي تهيج بي ،
أفتش في سرها عن سر أسراري ) .
وما أن فاهت نفسي بآخر كلمة حتى انتبهت الى أبي وهو واقف ورائي ويبش لي ، فوضعت الهاتف وعانقته ، فوضع قبلة على جبيني ، وقال : الحب يا بنيتي سبب التفاهم ، وسبب التجاوز لكل صعوبة في الحياة ، ولا أعرف في حياتي مثل الحب هاتفا يهتف في الوعي وبصورة دائمة بالرغبة في حياة أفضل ، وينزع بالانسان الى صناعة الابتسامة ، حتى وان ضاق بأمر يضغط عليه ، فهو الحب ، ابتسامة الفكر ، يؤسس للقدرة على رؤية الفرح ، ذلك بأنه الأجدى بأن يكون فارشا ظلاله ، فأن يحيا الانسان ، وفي وعيه وازع على انتاج الابتسامة هو أمر هام في الحياة .
وكان أبي يتحدث والابتسامة لا تفارق محياه ، وقد وضعت سماعة الهاتف أمام فمه لكي تسمعه ، وما أن انتهى من كلامه حتى أودع في نفسك قوله لا تنسى غدا ، ما دعاني الى الرد بقولي : كيف أنسى وينسى وتنسى وهو يوم ميلادي ، وبعدها تواصينا على الكيفية التي يكون عليها احتفالنا .
وقبل أن يغادر أبي غرفة نومي ، طافت عيناه في الغرفة ، وضحك بصورة مذهلة ، وغادرني ليعود بأمي ، الى الغرفة ، وهو يقول لها ، قولي لي ما الفرق ؟ ولم أفهم مقصوده الا أني سرعان ما فهمت ، بأني أكرر أمي في علاقتي بحبيبي ، فصور حبيبي على فراشي ، عند وسادتي ، وعلى جدران غرفتي ، وبجانبها كلماته الحلوة التي تمر عليها عيناي كيفما دارت في الغرفة ، وحقا أحسست بنوع من الحياء ، جلست الى حاسوبي غير عابئة بالاحراج الذي اجتاحني ، فما كان من والدي ، الا أن قال : أبعد الهاتف تتحاوران عبر الحاسوب ، بالصوت والصورة ، فقليلا من النوم ما بنيتي ، لكي تصلبي عودك غدا ، فقلت : يا أبتي : وهل النوم يسألنا وقتا يضمنا فيه ، فعندما يغرب بنا عن الحركة فهو يصر على ما يريد ، حتى نكاد لا نجد في ذاتنا ما يغلبه ، فمتى يحل تكون ارادتي خارج ذاتها ، ولا أتعرف الى ذاتي الا ساعة أن أفيق من نومي ، فقال : صوابك هذا لا يعني بأن لا نلتفت الى نظام حياة يريحنا في دنيانا ، وتركني هو وأمي ، وتناجينا بعدها عبر الحاسوب ، فأنت تراني وأراك ، وتكلمني وأكلمك ، حتى ساور النعاس جفوني ، فاستأذنتك أن نخلد الى النوم ، فاتجهت بكاميرا الحاسوب صوب فراشي لكي تراني ، وما كدت أختفي عن عينيك بين فراشي وغطائي ، حتى نهضت وعدت لأراك كيف تأوي الى فراشك ، ثم لم نتمالك ، نقل كل منا حاسوبه الى فراشه ، نرتوي من همسات نفوسنا ، فوجهك على الشاشة أمامي ، وكلماتك تهمس في أرجائي ، فكأنها أناملك تضرب على أوتار مشاعري فأتدفق بالنشوى ، وبقينا على هكذا نشوى ، حتى خط الوسن جفوني ، وأخذني النوم الى أحضانه .
وما كدت أغفو حتى رأيتك في المنام جالسا على صخرة قبالة الشاطىء ، تطوف بناظريك في السماء ، ثم تذهب بنظراتك بعيدا في البحر ، ثم تقوم من مكانك ، وتأخذ حفنة من الرمل وتذروها في الهواء ، وتتابع حبات الرمل حتى تنزل كلها مرة أخرى الى الأرض ، وتهرول تارة وأخرى تبلل قدميك بالماء ثم تعود الى الصخرة ، وتضع رأسك بين راحتيك وتقول :
(مشيت في صحراء الحياة فلم أجد واحة ولا ماء ولا تمورا ، حرارة تشب في حسي تذريه عيونا وجفونا ، فهنا أنثى ذات خصوبة وأخرى هيفاء ذات قد ممشوقا ، وهنا غادة يتلهف الولهان على عطش يرويه منها منهوما ، وما يعرف ولهان كيف يصبو الى ما لا يعرفه كامنا فيه مخبوءا ، أين أنا ومن تراني ماذا يدعو عقلي لكي لا يراني ، هل أعرف نفسي بعقلي أم هي النفس دليلي الى حالي ، يا ويلاه أين معرفة بذاتي كيف لا تداني ، كيف لا تعرفني وهي معرفتي وأعرف بأنها غنائي ، ضلت المعرفة بي دربها حين عرفت كيف تنساني ، هامت بي على وجه حيرة فحيرني الحب وأضناني ، هل تراها هذه أم تراها تلك ، فأين هوائي ، أين أنفاسي ، أين لؤلؤتي الكامنة في أعماقي ، كيف أعرفها وتعرفني وأعرف بأنها حياتي ، يا له القلب كيف ينبض نارا تحرث في أرجائي سؤالا حائر ، يسألني ، أين أنت يا حبيبتي ، أين أنت أيتها الراسية - من قبل أن أولد - في عمق أعماقي ، أين أنت ) ، فالى هنا ، التفت الى الوراء لتجدني أصيخ السمع اليك ، فانفتلت من مكانك ، وأمسكت بأطراف أناملي وأطلت النظر في عيوني ، فسألتك ، فمن تراها هذه التي تبحث عنها في أعماقك ، ولا تعرفها بغير أن تكون ماثلة أمامك ، فتقول :
( أنتى يساورني طيفها غزلا يفيض في قلمي حروفا ، كأني بلا طيبها لا أعرف كيف أتنفس سرورا ، ولا أدري كيف يمكني بلاها أن أرى وسط الظلام نورا ، بهاء طلتها للورد غناء يقيم لي في الأرجاء ثبورا ، يوزع في الحنايا موسيقى تبعث النشوى دروبا ، قصيدتي منها أنهلها وأسكبها لاهثا بجمالها مبهورا ، أنوثة تضج بي على عمقها في نفسي ، تشب بي حريقا ، يا ويح الهيام يتلهف بي على ضمها مسحورا ، تسري في عروقي حرارة تحيلني عليها ملهوفا ، هي جملة الحب التي ما عرفت لغيرها دروبا ، أسرتني ، ويا ليت أني عرفتها منذ زمن ، فما أبقت مني غير خافق القلب بها مجنونا ، يا لها الأيام تضمني وهي في قلبي لألآءة تغمرني حبورا ، هي أنت التي هامت بي في كل سناء وأبقتني بحبالها مأسورا ) .
وهنا ضمني الحياء ، ورحت أهرول وأنت تهرول ورائي ، وحين التفت اليك ورأيتك لا تتوقف ، رحت أتباطأ في نقلي خطاي ، حتى اذا أدركتني أخذتني بين ذراعيك وأنت تقول لي : دعيني أقول اسمك ، فهذا الاسم لا بد فيه من منابت الشمس ، وفيه ما يبشر بالنهار ، ودلالات على تراجع ليلي ، فقلت لك : وكيف عرفت ، فأنا شروق ، وما كدت أنطق اسمي حتى أحسست بأنك تكاد تعتصرني ، واذ ذاك رأيت أبي على البعد وهو يصيح : أين أنت يا شروق ، واذا هو وراءه أناس كثيرون يعزفون الموسيقى وينشدون .
وعندها أفقت من نومي ، على أنغام موسيقى ناعمة ، مثل نسائم البحر في بلادي ، فمثلها تسلل من شباكي ومر طيبا في أنفاسي ، بينا كانت خيوط من أشعة الشمس تزور فراشي ، ما أجمل شمسك يا وطني ، أنا أحب وطني ، الحب وطن الحب ، الحب يسيرني في حياتي فحياتي حياة الحب ، فوطني مليء بالحب ، فالانسان الذي يحب ، يعمره الحب ، يرسم له الحب علاقته بأهله وبوطنه ، فلا أظنن تكاملا انسانيا لمجتمع بلا الحب ، أعطني حبا أعطيك حياة سعيدة ، وأعطيك مجتمعا يسوده السلام الاجتماعي ، وأعطيك مجتمعا انسانيا متكافلا ، يقوى على مشكلاته ، ولا أظن وطنا يعلو بالحياة بلا الحب، اذا أردت قيما انسانية رفيعة تسود العلاقات الاجتماعية فأولا الحب ، ضع قواعده وارفع قوائمه واعلو واعلو في بنيانه ، تجد الآمال التي تعمرك في الحرية محققة بجهد جماعي بين يديك . أنا أحب وطني يعني أني أحبه أن يكون دوما في العلياء ، فأبذل ما أمكنني من طاقة من أجل رفعة مكانته في عيون أهله وفي العالم بأسره ، لا تحسبن وطنا يعلو بلا حب يبعث أهله على البذل والعطاء ، ولن تجد حرصا على علو قامة الوطن ، بغير الانتماء اليه ، والحب تراب الهوية ومكوناتها ، بمائه تتشكل وتكتسب جوهرها وتعلو ، وليس مثل الحب قدرة قادرة على تعميق وتأصيل الدافعية لدى الانسان في الحرص على بلده ، فأنا أحب بيتي ، اذن أنا على استعداد لعمل كل ما يرفع من شأنه ويحفظ أمني وأمنه ، فالرفعة والأمن ثمرات الحب الذي يبعث نظرات الأمل في عيون الحاضر ، ويتدافع بالارادة والفكر الى ما يجعل الأمل حقيقة واقعية في مستقبل الأيام .
فهذا ما دار في ذهني وأنا لم أزل في فراشي بينا عيناي تحدق في خريطة فلسطين المعلقة على الحائط أمامي ، فلقد علقتاها يداك ، قلت لي يومها : افعلي ما تفرضه سيرة الحب ، تغمضين عينيك وخريطة فلسطين بين رموشك ، وأول ما تنظرين حين تفيقين من النوم فاليها ، فالذاكرة تحتاج الى ما يستبقيها مستنفرة بصورة دائمة ، فأمن عش الحب يعني أمن الوطن ، مناخ حياة الحب ، فأنا أحب ، فشاغلي الأمن والحرية ، أكون حرا ، أوفر أمنا ، أحيا حبا ، أبني عشا يغني الوطن بالمناعة ، فالحب ابتسامة الحرية على شفاه الوطن . فهذا قولك كلما أستذكره تتشابك في الوعي عندي هموم الوطن مع هموم الحب ، ولقد ألقيت بقولي هذا على مسامعك أكثر من مرة ، وما من مرة منها الا وتوقفت طويلا عند هموم الحب ، ولعل أبلغ هم هو ما يستنهضه هذا التهديد الذي لا يتوقف للحب في ربوع بلادنا ، فمن يدري ، فلربما يتناثر عش حبنا يوما ، فأصبح في زنزانة وأنت تحت التعذيب في معتقل آخر ، يا ويلاه ، ومع ذلك يبقى الحب ريقا رطبا يبعث دوما على التشبث بالآمال ، والالتصاق بها حد عناق الروح للروح .
فكل هذا ماجت بي موجاته ، وعيناي لا تنزل من خريطة بلادي ، وما هي الا لحظات حتى رنت في أذني طرقات على بابي ، فاذا هي أمي تستعجلني بقولها ، بأنك في انتظاري تحت الشجرة وارفة الظلال ، التي تعشق الاستظلال بظلالها ، فسارعت من تأهلي للخروج الى استقبالك ، و ما أن دانيتك ، حتى شاعت البشاشة في ملامحك ، فيا ما أحلاه الحب ، ويا ما أرواه للنفس الجوعى الى الحبيب ، فلولا أن أبي كان يعالج شجيرات قريبة من مجلسنا ، ومعرفتك بأن أختي تطل علينا من شباك بيتنا ، لكنت أخذتني في أحضانك ، فأنا قرأت هذا في الشهوة التي تقادحت من عينيك ، أفلا تذكرها موجة الكهرباء التي مرت بين عيوننا مثل خطفة البرق ، فما هذه الكهرباء ، فأنا لم أزل لا أعرف تفسيرا علميا لها ، أتراها النفس العطشى تطل من العيون وتنطق بحقيقتها ، بهذه اللغة التي نحسها مثل الكهرباء . سألتك ولم تجبني ، وانما أرسيتني على الانتباه الى ما أنت راغب بالنطق به ، وفهمت ، وأصخت السمع ، فاذا أنت تقول : ( هل رأيت الأطيار وهي راقصة على الأفنان تشدو ، وكيف الأزهار تتمايل نشوى توزع الجمال والعطور ، والجبال بأشجارها باسطة فروعها زاهية بالشموخ ، والربيع ، وهذه خضرته نشوانة في الغدو والرواح ، وكيف الروابي باسمه تزهو ، تسورها رفعة وفخار ، والنسائم كيف هي مياسة ناعسة تسيل على الخدود ، والوجوه تتهلل فرحانة توزع البشاشة في الطرقات ، والموسيقى والغناء وزقزقة العصافير في كل الأنحاء ، سألت الشمس وكانت توزع شعورها في كل البقاع ، قولي لي يا منابت النور ما سر هذا النهر من الحبور ،
أطوفان سعادة جاء يغسل الدنيا من شقاء وضمور ، هاجت الأهازيج باسمة تغني ميلاد شروق ، ولد الجمال ، وطابت روائعة في جملتي : أنا أحبك يا شروق ) .
وما أوشكت على نطق اسمي حتى سبقتك الى قولي ( وأنا أحبك يا أبا سامح ) ، ما أدهشك ، فقلت : ( سامح ) ، فلماذا ليس ( شامخ ) ، فقلت لك : سامح يكون شامخا ، وأكثر من ذلك ، فليس الشموخ وحده يكفي الحب معانيه ، ولا بكاف الوطن مبانيه ، فكم من شموح مر به وطن بأثر عوامل هددتها قيم شاعت في المجتمع بسبب من غيبة المعاني التي يشيعها الحب ، فلو أن فعل (سامح) ، كان وازعا لكل نفس ساعة تحادد أو تنابذ أو تنافس ، لسبقت الحسنى الى احتلال العلاقة ورسم مستقبلها ، فسامح باعث على بنائية لعلاقة بماء تسامح ، بنظرة تطل على مستقبل بما ينطوي عليه من حاجات لتعاون ، فصيرورة سامح في اعادة بناء لعلاقة تضيف في تماسك مجتمع ، بل هي ضرورة هذا التماسك ، وهي حاجة أواصر لأن تظل في وحدة تكفل لها دوما أن تضيف في البناء فيعلو ، وعندها وقد تهلل وجهك ببشاشة كادت تسحبني الى أحضانك ، قلت برقة الورود والابتسامة تتهادى على شفتيك : اذن أنت أم سامح ، وأنا ابوسامح ، وهذا الاسم جاء من فم الحب النابت في حب الوطن ، ومع ذلك ، فأنا لا أفهم لماذا لا ننتظر صاحب الاسم حتى يكبر فيختار هو بنفسه الاسم الذي يرتاح له ، فقطعت كلامك وسألتك ، فكيف نشير اليه من يوم ميلاده حتى يصبح ممكنا له أن يختار الاسم الذي يريد ، فقلت : بأي اشارة ، المهم أن يكون هناك اتفاق على أن يكون الاسم خصيصة صاحبه ، يختاره بنفسه ، وهنا لم يمكني الا أن أفوه باعترافي ، بأن ثمة حيرة لا تعرف حلا لها الا بأن تسبق الأسماء عقول أصحابها .
فأخذت مني الكلام ، وقلت وعيناك تطوف على صدري ، بأن كل الأسماء في كل الأزمان محتاجة الى شروق انسانيتها على علاقاتها ، وأيضا أن تعيش حريتها ، واذا غاب النهار فتعلقها دائم بشروق نهارها ، فمتى تشرق الشمس ، أو متى يبزغ فجر النهار ، هو السؤال الذي يظل الأمل يموج به في أعماق حاجتها الى عيشها انسانيتها ، وهذه الانسانية التي يا طالما ننطقها ، انما هي بمعنى الحرية ، فمناخ تحقق الانسانية هو الحرية ، فما دليلك أيها الانسان الى حريتك ، انها انسانيتي ، هات نهارا بلا نور ، انزعي النور من النهار لا تجدي نهارا ، لقد انتزعوا الحرية من نهارنا فغدا ظلاما ، هل ترين نورا في هذا النهار ، وهنا باشرتك بقولي : هو أنت نوري في هذا الليل الذي يسمونه نهارا ، فضاء وجهك بما تردد في أعماقك من أصداء قولي ، فزادت لهفتك علي وأنا بين يديك ، وبظني بأنه لولا أنا كنا تحت عيون والدي وأختي ، لكنت ضممتني ، ولكنك تمالكت ، وقد عرفت هذا من لغة حدثتني بها عيونك ، وامارات شاعت في محياك ، وحركات أنبأت عنها أنامل يديك . ما زاد في استنفار مشاعري التي صاعدت من دفق حرارتها فراحت تتقلب بين أنفاسي ، وقد أنبأنتني موجات سرت في شفتيك ، بأنك تتغنى طربا للحريق الذي أنشبت نيرانه في أرجائي ودلت علاماته عليه، فلم يعد يمكني اخفاء أنفاسه .
فعندها أرسيتني على اهتمامك بيوم ميلادي : تعالي نتماثل شروق الحرية ونبتهج بميلاد شروق ، فاستجابت عيوني وقد ملأها الغرام متسائلة ، عن صواب انشغالنا بمظهر فرح في يوم ميلادي وسط أجواء تموج بكل توتر ، وتومىء بما تفيض به من أسى ،على الحاجة الى اقالة حزن من عين لا تكف تدمع على فراق عزيز ، فكم من أسرة حولنا تمد بصرها الى سجن أو معتقل ، وكم من طفل مات أبوه وفي قرارة نفسه يعتقد بأنه يقيم لحرية الوطن أركانا ، وكم من ظروف تقطر قسوة أحاطت بأسرة بقدرة احتلال احترف صناعة البؤس انتاجا لركوع لن يأتي ، وما أكملت كلامي حتى ضجت بهجة في أسارير وجهك ، وهاج لسانك صادحا بقولك : اني أسمع حروف شروق وقد لامست حاجات هي في حقيقتها ضرورات ركائز شروق لنهار يتراجع أمامه سواد الليل ، فمتى تراها كتل الظلام سوف تفر تحت ضربات شروق حرية من زند حرية ، فيا لفرحتي بتكامل وعي بدرب حياة يحيني ، اني مثل شجرة ترابها وهواؤها وماؤها الحرية ، وها أنت شروق كلمة الحب على شفاه حياة تحلم بنهار عدل وحرية ، يحتاجنا جميعا الى المزيد من الكد لاستخراجه .
بدا لي عندها بأن الوطن يغمرنا بحبنا له ، ويتماثل أمامنا بحقنا في الحرية ، بينا أنت لا تتوقف عن كلامك وتقول : ألا ترين معي اللاجئين يعودون أفواجا أفواجا الى ديارهم ، وأقول لك من فوري : بلى ، اني أراهم يعودون ، انهم يأتون من بين ثنايا الفجر ، ويقرؤون السلام على الوطن ويدخلونه آمنيين ، ما أجمل العودة والعائدين ، وتقول لي : العودة يا شروق كما شروق الشمس ، انها هزم الليل بحروف من نور ، أفلا ترين ما أراه بأن العودة هي حل أزمة أمة بحالها ، وأقول لك الأمة مأزومة بعجزها عن انتاج فجر العودة ، فاذا أنتجته ، تخلصت من عجزها ، وتصدرت قيادة التاريخ ، وتقول لي وأنت تستخرج بيدك من جيبك مفتاحا قديما ، أحالني أول ما عانقته عيناي الى مرجل يوقد بحب الوطن ، فمرت في خاطري مشاهد بيتنا القديم في حيفا الذي أعرفه من صور مرت عبر الأجيال تنقل حكاية عودة لا مفر منها ، فحتما تكون ، وأيضا تذكرت حكايات كان جدي يحكيها لنا ، فندت عيني دمعة وخطني حزن ، طواني على داخلي في لحظة من وقت ، تنبهت بعدها الى أناملك وهي تمسح دمعة تلو دمعة ندت على خديك ، ونشج صدرك و كدت تجهش في البكاء ، الا أنك تماسكت ، ثم وضعت رأسك بين راحتيك ، فناولتك منديلا معطرا ، ودانيتك ووضعت راحة يدي على رأسك ، وودت لو أضع وجهك على صدري الا أن الحياء استوقفني .
فناديت على أبي وأشرت اليه أن يأتي ، وكان مشغولا بأشجار في الحديقة ، وكنا نراه ويرانا ، فسارع الينا ، ونادى على أختى بأن تأتي بالقهوة ، وما أن قاربك حتى جلس الى جانبك على المقعد الممتد بطول أمتار تحت الشجرة ، وأصبحت بيني وبينه ، وقد أحس ما بك ، فملامحه تبدلت ، فضمك الى صدره ، وقال هات يا شروق منديلا آخر وامسحي دمعة محمد ، فكأني والحياء قد ودعني رحت أقيل الدموع من على خدودك بيدي ، بينما أبي راح يقول : ليس مثل الحب ماء يشرب منه الصبر ، فلولا هذا الحب العظيم للوطن ما أمكن الواحد منا أن يصابر نفسه على ما يعانيه من قهر لا يتوقف ، فصبرا يا محمد ، فشروق نهار الوطن قادم لا محالة ، ودماء أهلك باقية في ذاكرة الوطن ، بقيت أنت وحدك من أسرة كاملة ، ذهبوا جميعا شهداء ، فداء للوطن ، لقد مات أبي وهو يحدثنا عن جدك البطل الشهيد ، نحن أهلك يا محمد ، كان والدك صاحبي وعندما رأى شروق وهي لم تزل في المهد صغيرة ، احتضنها وقال : احفظها لمحمد ، كان ذلك بعد أن قمنا معا بتنفيذ مهمة خطيرة ، خرجنا منها سالمين باعجوبة ، والفضل يعود لأبيك ، ومرت الأيام ، أنت ذهبت فيها الى التعليم في الخارج ، وأنا أمضيت في السجن سنيين طالت ، ولما خرجت رحت أبحث عنك ، كان لا بد لي من الوفاء بعهدي لأبيك ، واني أتمنى عليك أن تكون على قدر آمالك وأحلامك ، وبأن تكون قارئا متبصرا للتاريخ ، فتاريخ هذه المنطقة قد شابه زيف لا بد من افتضاحه ، وهذا يشغلني كثيرا ، واني الآن أتركك وشروق لتفكرا معا في يوم زفافكما ، وقد كان بودي أن يكون اليوم هو يوم زواجكما معا ، الا أن أم شروق قالت لي اترك الأمر لهما ، فهما أدرى بحالهما ، واني أتركك وشروق ، لأنهض بأمور تنتظرني . غادرنا أبي ، بينما أنا في حضرته كنت مغمورة بتلك الدقائق التي التقيتك فيها أول مرة ، فلم أكن أعرفك من قبل ، ولم يحصل أن رأيتك من قبل ، ولا كان هناك من أومأ لي عن علاقة لربما تصلني بك ، لكني كنت أسمع أبي وأمي يطيلان الحديث بين الحين والآخر عن والدك ، ولم يكن لي أن أفرق بين ما يرويانه عن أسرتك وبين ما يرويانه عن بقية الأسر الفلسطينية التي بذلت أعز ما تملك من أجل الوطن .
فأول مرة زرتنا فيها ، أجلسك أبي الى جانبه هنا ، على هذا المقعد الذي نجلس عليه الآن ، وكنت أنا وأختي جالستين بعيدا من هنا تحت تلك الشجرة التي هناك ، انظر اليها ، لا نعرف ما علاقتك بأبي ، ولا ما تتناولانه من أحاديث ، ونتساءل فمن تراه يكون هذا الشاب الأسمر الذي يستأنس به والدنا ، فعاطفة أبي بالامكان رصدها عن بعد ، ثم اهتمام أمي بك ، فكل ذلك جعلنا نعيد ونكرر بيننا ، فمن تراه يكون ، وماذا دعاه الى زيارتنا ، ولم يخطر على بالنا بتة ، ما ترتب على هذه الزيارة ، فلا زلت أتذكر أبي وهو يومىء لنا بأن ندانيه ، فقمنا من فورنا ، وما قاربناكما حتى تأخرت أختي ودانيتك أنا .. كنت أنا التي أحست بأن ثمة ما يدعوها الى الدنو ، وعندها بدا عليك بأنك تقصدني في لغة مشاعر فاضت منك ناطقة ، حتى بدا لي بأنك لم تعد تتمالك نفسك ، نهضت من مكانك ودنوت مني ، فتألقت عيوننا ، ومن دون أن تدري لامست أنامل يديك ذراعي ، ما أذهلني ، ومع ذلك لم أرتد الى الوراء ، دنوت منك أكثر فأكثر ، نسينا مرة واحدة أين تقف أقدامانا ، غرقنا في التأمل في بعضنا البعض ، فعيناك غرقت في عيناي ومثلها فعلت عيناي في عينيك ، كأني في عينيك وكأنك في عيوني ، أحسست عندها بأن موجات لم أعرفها من قبل تضرب في أرجائي ، ولا أدري كيف انتبهت الى أني في حضرة والدي ، فقلت : أبي ، هل تأمرني بشيء ، فقال : الحياة يا بنيتي ، الحياة أمانة ، واني أترك لك أن تقرري في شأن حياتك ، فهي حياتك أنت ، وقام من فوره وأحضر لنا باقة ورد ، ودعا أمي وأختي .
وقد فوجئت باحتضان أمي لك بحرارة شديدة وتقبيلها لك ، وهي تقول لك ، يا مرحبا يا ابني ، كم أنا فرحانة بأننا حققنا لوالدك رغبته ، كان كلما رأى شروق يلاعبها ويقول لها : أنت تراب وطني الذي سوف يحتضن ذريتي ، واستمراري حارسا لتراب بلادي ، وكانت شروق وهي لم تزل صغيرة ، ولا تعرف كيف تميز مقاصد أبيك ، تتفلت انتباه له ، وتحب مداعبته لها ،وأن تسمع منه ، فكأنها في قرارة نفسها تريد أن تأخذ عنه وتحفظ صوته في أعماقها كذخيرة تحتاجها في مستقبل أيامها ، ولا أزال اذكر قوله لنا ، بعد أن أطال النظر في وجهها وهو يحتضنها ، اني أرى الفداء في عينيها ، وأرى الحرية قادمة من بين رموشها ، واني أمنحها اسم فدى مضافا لشروق ، فلعلي استبقي معها معنى لحياتي في خدمة وطني ، وكان يقول أحيانا ، وهو يداعب شروق ، عروس محمد ، لها شعر ذهبي استمد لونه من مهرجان شروق الشمس ، فهو بشارة زوال الليل ، وعيونها فيها زرقة ، تفكر ، تتساءل ، تدل بعمق النظر فيها على سماء نهار قادم ، يا طالما شاغل بتساؤلاته كل الأحرار ، ومشيتها فيها تمايل الورد ، حين تلاعبه نسائم الربيع ، ما يجعلني أرى ربيع وطني بين أنفاسي ، وهو الحس العميق الذي لولاه ما اقتدرت على صعوبات عند ضفافها قعد الموت في انتظاري ، وكان مرة وضع يدها على زناد بندقيته ، وجعلها تشم رائحة البارود ، وأكثر ما شده من تصرفها دموعها التي أصرت بها على أن تأخذ لنفسها البندقية منه ، ما أسال دموعه ، لقد رأيته ساعتها وصدره ينشج ، لا أدري ما دار في ذهنه الا أنه قال وهو يمسح دموع شروق بأطراف أنامله : فأين يذهبون ، والى أين يفرون ، فها هم أطفال فلسطين ، في عمقهم رست حرية وطنهم ، ويعرفون من قبل أن يشبوا عن الطوق درب الخلاص من براثن الاستعمار . فكل ذلك مر في خاطري ، وعيناي تطوف ما بين المفتاح القديم الذي أردته عهدا بيني وبينك في يوم ميلادي ، وبين عينيك التي تكتب بفصل شتاء حل بها وفاء عزيزا لوطن عزيز ولشهداء هم أعز الناس .
واذ ذاك ، وعلى غير انتظار منا ، كانت المفاجأة ، عاد أخي من ماليزيا ، وطرت من مكانك اليه ، سبقتنا اليه ، وما أن اتخذ مكانه على كرسي قبالتي أنا وأنت ، حتى راح يقول بأن حضوره المفاجىء ، انما كان بترتيب بينه وبين أبي ، وبأنهما اتفقا على أن يكون بهكذا حال ، وقال موجها الكلام لي ولك ، لقد أحضرت لكما هدية ، ونهض الى حقيبة كبيرة كانت بيده ، ثم قال : هذه ملابس تشبه التي لبستها دلال المغربي في رحلة عودتها الى الوطن ، فسبقته الى قولي : أوفيت بوعدك لي ، فهي لباسي وزينتي في يوم عرسي ، وأضاف قوله ، وهذه بدلة رائد فضاء ، وهي للعريس مهندس الطيران صديقي الحالم أبدا بأن يصبح رائد فضاء ، ثم قال : الليلة ليلة زفاف محمد وشروق ، فهكذا يريد أبي ، واني غدا صباحا لمسافر لاستكمال دراستي ، فمن يدري ، فلربما نصنع معا أنا ومحمد طائرة من دون طيار . وقد طال حديث أخي بينما أنا أضع وجهي بين راحتي تارة استرق النظر في خلالها الى من حولي ، وتارة أخرى أتملى منك ، أدور بعيناي عليك ، أحاول أن أقارب لنفسي الساعة من الليل التي نكون فيها وحدنا في فراش واحد ، ولم أعرف حاجتنا للأمن مثل ما عرفتها وأنا سابحة في نفسي ، فقد خطني سؤال ، فماذا لو قاموا بمداهمة بيتنا ، في تلك الساعة ، وماذا لو احتجزونا وأخذوا كل واحد منا الى سجن ، فكل هذا حصل مع غيرنا ، فيا له الفراش الآمن ، انه الوطن الحر .
وهنا نهضت أختي من مكانها وتباعدت وهي تذرف الدمع ، ثم تدانت وهي تقول وصدرها ينشج ، وهل أبقى وحدي في البيت ، ولماذا لا يكون عرسا مثل كل الأعراس فأرقص وأغني ، أفرح في يوم زفاف أختي ، فقمت اليها وأخذتها بين ذراعي ، وسارعنا جميعا أنا وأنت وأخي الى قراءة الفاتحة على قبور الشهداء ، ومن بعدها رحنا ندور على بيوتات رفعت أركان الحرية بشهيد أو أكثر ، وفي خلال ذلك زرنا أهالي السجناء الذين ضاءت الحرية ببذلهم ، وما زالوا خلف القضبان ، وأعطينا مما نملك بحسب قدرتنا الى من بهم حاجة .
وعدنا واذا هو أبي في انتظارنا ، وما كدنا نحيط به حتى قال : العرس سوف يقام في بيت محارب قديم أصر الا أن يذكر أباك ببعض من وفاء ، وسوف يحضره محاربون قدامى ، ونساء باعهن طويل في الكفاح من أجل الحرية ، واذا ثمة غناء لربما نسمعه ، فللشهداء والسجناء والثورة ، واذا ثمة عطر سوف نستنشقه في تلك الأجواء فعطر البارود ، ما دعاني الى التهافت بقولي : وصديقاتي يا أبي وأصدقاء محمود ، فقال : العرس مرحلتان ، فالأولى ما ذكرته ولن تدوم أكثر من وقت يتم فيه تناول الطعام ، فكل الحضور يهمهم أن يعانقوا ابن صديقهم ، فلقد أفنوا شبابهم في رفقته وتحت قيادته ،وأما المرحلة الثانية فقد اهتمت بها أمك ودعت كل صديقاتك وأما محمود فكما تعلمين فقد عاد للوطن منذ أيام ، ولا يعرفه أحد سوانا هنا فكل وقته أمضاه في الدراسة في روسيا ثم في ماليزيا ثم في أميركا ، ولم أكن أعرف أين هو ، حتى عرفت من أخيك بأن صداقة عميقة تجمعه مع محمد ، فسارعت الى استدعائه ، ولم يكن يمكني أن أنسى وصية أبيه لي اذ قال : يكون زواج محمد في أول يوم ميلاد لشروق يصادف بعد الخطوبة ، وهذا ما دعاني الى الاصرار على أن يكون اليوم هو يوم زفافك اليه ، فالوفاء يا بنيتي ، عمل يحتاج الكثير كما ترين .
وما أكمل أبي كلامه حتى جاءت أمي وبيدها بندقية تقول لمحمد هذه بندقية كانت لأبيك أبقاها عندنا كهدية لك في يوم عرسك ، فامتدت يداك الى البندقية سراعا واحتضنتها ومشت قبلاتك لاهثة على مواضع مختلفة منها فكأنك تتماثلها يد أبيك ، تعاهدها بأن تمضي بالأمانة الى مداها ، فملامحك نطقت بأن عقلك وقلبك انتزعا مرة واحدة من كل رباط لهما وتعلقا بالكفاح من أجل الحرية ، فعيناك برقت فأشعلت الثورة بين أقطاري ، وجسمك أرعش معلنا عن رعد يقصف بين جوانحي ، ما أوقدني الى حد التفلت من مكاني لأطير الى ما يمكني به أن أكتب سطرا في سجل الثائرين الخالدين ، وأذهلني فصل شتاء حط في مواقد عينيك ، فاذا هي سحب تسبح في وجنتيك وتمطر على ايقاع بريق يتوهج من حدقات بين رموشك ، وأنت ساهم شارد الذهن ، يغمرك صمت عاصف ، فكأنك بركان يوشك أن يعلن عن مكنونه .
فترددت في ذهني تساؤلات عن أوضاعنا ، فما أحوج شعبنا الى الطاقة الكامنة فيه ، فهي في جانب منها في ثلاجة تتجمد بحرارة من لاتواصل ولاتفاهم ، ولا اتفاق على أسلوب زحف نحو الغايات السامية ، فكل ذلك صناعة الارجاء والتأجيل لدور لا يصح له أن ينتظر ، وأحسست في غمرة ذلك بأني مقبلة على زواجي من وطني ، وبأني لا بد وأن أملأ الأرض زنودا وعقولا ، تستولد شروق الحياة الكريمة العزيرة الآمنة في الربوع ، وقد خطني حس بالمرارة ، اذ جابني تصور لحبنا الذي ولد في الحصار ، بأنه مهدد بقمع الغرباء ، كما الحياة التي سوف نستولدها معا في فراش الحب .. اطفالنا الذين نتوق الى رؤيتهم ، لا نعرف الآن ، أيان سوف يقفون ، على خط النار يستحلبون الشمس شروقا ، أم في زنزانة أو سجن ، أو يلتاعون بغربة ، ويكدون من أجل عودتهم الى الديار ، فأمن فراش الحب أمن حياة ، وأمن وطن ، وأمن حاضر ، وأمن مستقبل .
واذ ذاك ، وبخطفة برق طاف بك الوفاء في كل واد ،وضمك الحب ، فغرقت في بكاء مرير ، ما جعلني أغرق في حبي ، وأجهش في بكائي بكائك ، وبينا عيوننا تغتسل بدموع حبنا ، كان أبي يمد بصره اليك ، وفي جبينه تتهلل العزيمة وقد لاحت كما الشمس تحيط بها هالة من حنو بالغ يغمره ، فاذ ذاك راح ينقل الخطى بطيئا اليك ، بينا عيناه الحانية بكل دفء لا تنزل منك ، فما أن أصبح أمامك مال بصدره نحوك ، وهو يتندى حنوا ، ومد أطراف أنامله اليمنى الى أسفل ذقنك ، بينا يده اليسرى حطت على كتفك تربت بكلام من دفء ، وكنت أنت قد تباعدت بوقع العاصفة التي هبت عليك من أعماقك ، حين لامست يداك بندقية أبيك ، وجلست على مقعد قريب ، وبظنك بأنك بذلك تريح نفوسنا من صوت أسى جابك وحزن افترشك ، ودمع اغتسل بك ، وما خطر على بالك بأننا جميعا مرآة بعضنا بعضا ، فأمي قد وارت ما جابها بلجوئها الى داخل البيت ، وأخي سارع بخطواته الى أبعد نقطة في ساحة الدار ، وأختي تكورت على نفسها تحت شجرة بعيدة وأخفت دموعها براحتيها .
وما مر من الزمن ما يعدل أن يصابر كل نفسه ، حتى قال أبي لك بصوت خفيض ، يتهدج شوقا الى أبيك ووفاء له: ارفع رأس يا محمد .. الى أعلى ، كما هامة والدك ، كانت عيناه تحلق دوما الى أعلى ، فالبندقة وديعة أمل في عنق ارادة ، فهي اصرار شعب على أن يظل شامخا ، ثم أخذ بيدك وقال : هيا يا عريس ، ونهضت والبندقية بيدك ، كأنما أنت ذاهب الى الحرب ، ثم علقتها على صدرك ، وخطوت نحوي ، حتى كاد صدرك يلامس صدري ، فرعشت مشاعري ، واذا به أبي يطوقنا بين ذراعية ، فكأنه يجمعنا بذراعي محارب يودع فينا التصاقا بغايات وطن جاع بنوه الى حريتهم ، ويقبلني ويقبلك ، وبتلقائية عاشق لامست شفتاك جبيني ، فأرخى لنا والدي ، فوجدتني من فوري أتعلق على رقبة أبي وأقبله ، ثم أنثني اليك فأتعلق على صدرك ، أضمك بشوق وطن الى عودة أبنائه ، فتتوه عن نفسك ، فتنزل شفتاك على شفتي ، وتضمني وأضمك ، والبندقية على صدرك وبين ثديي ، كأني في غمرة حبي على موعد معها بأن أرضعها من حليب حياة تتواثب على حرية وطني ، وسرعان ما توردت خدودنا من خجل حين أنبهنا صوت لأبي وهو يرن ، بأن دورة الأرض تعلن عن أن نهار هذا اليوم يوشك أن يتثاءب ، وفهمنا بأن نسارع الى ما يتوجب أن نقوم به ، قبل أن تأتي الساعة التي نعد الوقت اليها لحظة بلحظة ، فمشيت بمشية أبي وعيناك لا تنزل مني ، ولحق بكما أخي وبيده كل ما يلزمك كعريس .
وبقيت أنا أتهيأ بمساعدة أمي الى زفافي اليك ، ويا ما أسعدها ساعة وأنا ألبس لباسا يا طالما تمنيته زينتي في يوم عرسي ، خالخني حس بأني هي ، فكأني أستعيدها عروسا للوطن ، في يوم عرسي ، تسمرت عيناي على صور لها معلقة على الحائط في غرفتي ، وتمنيتها بدلا عني وتمنيت نفسي بدلا عنها ، واني لكذلك دانتني أمي وقالت : تعطري بالبارود يا بنيتي في يوم عرسك لكي تفهمي عميقا دورا تمليه عليك زينتك التي بها تتوهجين ثورة ، فهو الوطن ينادي عليك ، فأنت أنثاه ، فلبي بعطر الحرية نداءه ، ثم انسرح فكرها ، وعادت بدمعة على خدها ، وهي تستذكر الظروف التي ولدتني فيها في السجن ، وراحت تحدثني عن زميلات لها مناضلات ، لاعبنني ، وأودعن في ذاكرتي أسماء القرى والمدن التي يرنو اللاجئون بأبصارهم الى العودة اليها ، وما تركتها أختي تتم كلامها ، أذكرتها بأن العرس يعزف نشيده ، فطارت من ذكريات أليمة الى فرح تستدعيه بأن يفترش محياها ، وبدت وهي تغالب نفسها بأنها تحاول أن تستخرج نفسها من ألم يعتصرها الى انشراح صدر تود لو يكون لها ، وما هي الا ساعة أو أقل من ذلك ، حتى قام الوطن يوزع على بنيه أمانة العودة اليه ، فيا ما أروعها ليلة ، افترشنا فيها الوطن ، فانشغلنا في تهيئة خندق بزراعة البذور فيه ، أملا في حياة تتدفق منه بنهر يغتسل به الوطن ، فلعله يعود سيرته الأولى .
................14/ 7 /2011
[email protected]
صفحات من كتاب ( الحب ) للكاتب ..لن يصدر قريبا
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.