الحب بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم ..فلسطين وقمنا الى وهم من راحة من عناق توهمناها فتعانقنا وغرقنا في ثنايا الهوى وارتحنا ، لنا العذر فما اقتدرنا ، أحضان الهوى غلبتنا ، وأفقنا وقت الظهيرة وعدنا نسبح في عيون الهوى وغرقنا ، ولم نسأل متى نفيق لكنا أفقنا ، وهمسنا بطيب الكلام وذبنا ، أرحنا من اغتسال بوهج العيون ، وما انتبهنا الى الشفاه تملس على الخدود ، تذوب وتذوبنا ، وسألنا ماذا بنا والوعي يتوه عنا ، يغرب هاربا منا ، كأنا اذا أردنا أن نحيا فعليه أن يبتعد عنا ، وما بين جوع لا ينطفىء وجوع يأبى الا أن يتبدى ، قمنا الى ماء ومأكل ، فاذا هو الشراب من الصدر يتدلى ، رمان شرابه لم يدعني أتأنى ، نسينا ما قمنا له وعدنا ، نتغذى على هيام والآهات منا تتندى ، نفيق ونغفو كلما صحونا . وبين نحن بالغرام نتغطى ، وبين نبض الهيام في حسنا يتغنى ، تدلت شفاه عطرك تفوح بأريجها تتدلى : يا حبيبي ، ألا ترى بأنا ، من يوم أن غرقنا في بحور فراش الهناء ، لم نعرف لكلمة الجوى في نبضنا معنى ، ومثلها حرقة الفؤاد غادرتنا ، وغدونا نتساءل أيان هاجرت ، ونسمع عنها وما من همس لها في عروقنا عرفنا ، فما أن تدق على بابنا أنامل عطش لعناق ، حتى نكون قد ارتوينا ، وما أن يرف جفن جوع في شفاهنا حتى يفر منا ، فأين الحرائق ، والأنفاس لاهثة على حرارتها تتقلى ، تأخذها اللهفة تلو لهفة ، وهذا جفني مثل جفنك ، ترى فيه الارتواء فارشا ظلاله بكل عطر وردة ، لم يعد يعرف دمعة شوق حرى منه تتندى ، قيل في سير العشاق بأن لوعة الفراق ونار الشوق بها قرب من الحبيب يضيف لعناق الشفاه حين تلتقى معنى ، أي معنى ، لهيب يستعر فيها ، وتنزل من العين دمعة هناء تتغنى ، يا حبيبي فكل هذا ما عرفناه في عش الغرام مذ كان لنا مهدا ، فما قولك بأن ندري معنى غاب عنا ، ببعاد به نتحرق ، ونشقى بلوعة عشق كنا عرفناها ، من أول يوم فيه على أجنحة الحب رقصنا . وما أمكنني يا حبيبتي ، الا أن أصيخ السمع للورد يحدثني ، بأمطار من عطر تجرفني الى غرق أحبه طيبا في حرارة أنفاسك ، بقيت أتورد بحرارة تفيض عشقا من ألفاظك ، واذ ذاك ، وكما هي أناملي ، تعرفيها وتحفظين سيرتها ، تناهت تستسقي الموسيقى من لمسات خفيفة تمر بها على أوتار بهاء تموج بها أنحائك ، واذا هي رموش عينيك تداني برقتها ، تود أن تعانق رموش عيوني ، ثم بنان الابهام من يدك اليمنى راح يملس على شفتي ، وانشغل في كتابة اسمك واسمي ، وأحبك يا حبيبي على خدودي ، ومشت حرارة من شفتيك في شفتي ، وهي تهمس بناعم من نسيم سرى في كلمات نسيجها حلو ، قلت : ألا تذكرها لواعج الأشواق حين كانت تضج بالحرارة ما بين أقطارنا أيام خطوبتنا ، فأين ترانا الآن نلقاها فنحسها ، هل تراها منشأها لا يكون بغير بعاد يتلهف على تجاوز المسافات ، فها أنا ريانة وأنت ريان ، لا يخطنا عطش أو جوع ، فأنا وأنت معا مائدة الحب ، بنا يدلل الحب على ما هو ، وما يمكنه أن يفعل بالانسان وعلى أي وجه يرسيه ، فكلانا يفترشنا ارتواء ، فهل بدايات الحب ليست مثل غاياته ، فحين راح يحتلنا ، هاج بنا بكل حريق ، فتناهى الى ما يرنو اليه ، وهو ما نحن فيه الآن وما نؤول اليه ، فكيف ترانا نحس برقا ورعدا وعواصف ترعش بها منا الأرجاء . وما أدري كيف أن امارات وجهك استحضرت قولي لك : وهل تراه اللاجىء بعد عودته الى بيته وبيارته ، وشمسه وقمره وهوائه ومائه ، يتوق لمشاعر من معاناة غربة هاجت به كل وقته الى يوم فيه يعود ، فالعودة زفاف عائد الى وطنه ، يعود يحرث التراب ، يسقي الزرع ماء ، يقطف ثمار زرعه ، يحيا بطمأنينة في فراش غرام يجمعه مع انثاه في وطنه ، ويفيض الغرام بما به بالحياة تتدفق في ربوع الوطن ، رخاء وأمنا ، وديمومية اصرار على توافر الهناء والصفاء ، فكيف يا حبيبتي نغادر الأحضان لفترة من وقت ، لكي نجد الأحضان أهنأ وأعمق سياحة وأغنى ، فأنا لا أرى داعيا يدعوني الى تناه الى سفر أضمن به بعدا عنك ، ومنه أطل عليك ، بحافر الرغبة بأن أعود اليك ملوعا بحرارة بها أتلظى ، يكفيني ما أنا فيه من غرق في ثنايا بحورك أنهل منها العطر وأغرق وأتندى من الهناء ما به أتجلى . فجاء ردك - يا ويحي - كيف نبست شفتاي ببعاد ، وهل أنا على بعاد لحظة منك أقوى ، أيكون العطر يهب نسائم من طيب كل آن على أنفاسي وأصبح ولفح قيظ الشوق الى همساتك يلاعبني ، فكيف دغدغاتك لي تفارقني لحظة ، فماذا دعاني الى قولي كلمة البعاد هذه ، من أين جاءت ونزلت على طرف لساني ، كيف اتخذت لها مكانا تكونت فيه في ذهني ، ماذا جعلني أرتضي أن أفوهها ، يا له فمي سبقني الى قول ما لا أريد أن أقوله . لكن هذا كله يعني بأن شيئا ما لا اراديا يأخذني فما هو ، لعلي تذكرت أيام انتظرت أن ألتقيك في عش الغرام ، لاهثة ، أتلهف لهفة تلو لهفة ، كانت أنفاسي تحرقني ، وأحس من شدة شوقي بأني آيلة الى بخار ، وأتخيل نفسي كذلك بخارا يتطايرا في الهواء ويعلو ويعلو ، وأقول يا ليت أنه يتزل على حبيبي ويعانقه ويقول له أحرقتني وأحلتني بخارا ، وأحيانا كنت أحس بأني أريد أن أكسر كل قيد اجتماعي وأفر اليك ، كان ذلك مرات ومرات ، فمرة وأنا أقارب النوم وهو يفر مني ، لم أعد عندها أطيق نفسي على حال من بعاد عنك ، فكدت أغادر البيت الا أن شيئا ما قال انتظري وعدت ، ومرة دنوت من أمي وقلت لها وكانت نيران شوقي تحرقني ، قلت يا اماه اني في شوق الى حبيبي ، قالت : اني أفهمك يا بنيتي ، فلقد كان حالي بمثل حالك الذي تصفينه لي وأنت الآن عليه فصابري نفسك يا بنية ، حتى يأتيك حبيبك في وقت قريب ، قلت : يا أمي ، لماذا لا أملك لنفسي سيطرة على نفسي في كل ما له صلة بحبي ، قالت : كذلك الحب أقوى قوة في الحياة، فهي بعينها ملك الحب ، فكيف لا يكون شأنك على هكذا حال ، وأنت بنت أمك ، قومي من أمامي واسكبي نفسك في الكلمات ، كما كنت أفعل ، فحرارة الشوق تعرف حروفها ، وليس مثلها قلوب مشوية بنار الحب تجيد الربط بين حروف اللغة ، في نسيج همسات النفس الولهانه ، وهي تناجي حبيبها على البعد والقرب ، قومي يا بنيتي ، واكتبي ، وارفعي سماعة الهاتف ، واقرائي على حبيبك ما فاضت به نفسك المولهة بالغرام . ونهضت من فوري ، وركضت الى خارج الدار وهناك على مقعد تحت شجرة وارفة الظلال جلست ، أتذكر كلماتك الحلوة التي يا طالما كنت تلهب بها أنفاسي وأنت جالس بجانبي ، وتغني لي تارة ، وأخرى أسألك ما صمتك عن الشدو بأحلى الكلام ، فتقول لي : اني أحب أن أسمع البلابل وهي تغني ، فأهيم بهمس مني، بكلمات تشجيني وتلملم نفسي بين طياتها وأنا أقولها ، وأنظر اليك ، فاذا أنت سابح في نشوى ولا تنزل عيناك مني ، ويا لسعادتي وأن أقرأ في عينيك رغبتك بأن تضمني وتغرق في بحري ، كنت أحس هذا موجات من هناء تسبح بين جوانحي ، وأنتشي ، أحس بأني أحلق في أجواء من نعيم ، وتسألني عن هيامي ، وأقول لك ، بأني مشتاقة الى يوم زفافي ، فلماذا ننتظر ترتيبات اعتاد عليها الناس ولم تكن حواء ولا آدم يعرفان عنها شيئا ، فها نحن نلتقي لنحترق شوقا الى بعضنا البعض ، ويا ما أروع أن أشتاق اليك وأنت تشتاق لي ، وكلانا يفتش في عيون الآخر عن سعادته ، وأتذكر عندها بأنك قلت لي: يا شروق موعدنا الغرام ، تحت ظلال الغرام ، وها هو الحريق الذي يقدمه لنا الغرام ، أنا مغرم وأنت مغرمة وكلانا بالغرام يحترق ، فكل ذلك تهادى في أنفاسي حرارة شوق اليك ، وأكثر منه يا حبيبي ، فتحت الشجرة التي أسميناها ظلال الغرام ، تراءيت لي ، فكأنك أمامي ، أقول لك وتقول لي وأتماثل أناملك وهي تلملم شعري ، وتمر بأطرافها وراء أذني برقة ، وتكتب على رقبتي اسمي وأحبك ، فكأني قيثارة تضرب على أوتارها بمهارة ، فتضج بي موسيقى توقد في عيوني شهوة تقرأها في عيوني ، وفي شفاهي ، وخدودي ، أغدو شهية ندية وبي لهفة أن تأخذني ، فيا ما أروعه الخيال وهو يؤدي لنا خدمة مجانية في استحضار الحبيب ، تماثلتك ، فغمرتني مشاعر دافئة ريانة بكل ما هو رائع وجميل ، فاستسقيتها ، فتندت قطرات قطرات من هناء ، وبقلم أودعته عندي ، كتبت ما جاشت به مشاعري ، في دفتر أفردته لكل ما يصلني بحبي ، ونهضت من فوري الى البيت ، أتمايل ، أتهادى الى غرفتي ، وأنت في مخيالي ، تملأني ، ورفعت سماعة الهاتف ، وجاءني صوتك : موجات متلاحقة من دفء سرت في عروقي . سبقتني الى اشعال الحرائق في أنحائي : (غدوت وترا ، أوتارا ، وأنامل صورتك التي أمامي تضرب ألحانها كيفما يحلو لها ، فكأني أغنية تفتش عن حروفها على وقع موسيقى هي ملامحك القتانة التي تنطق بها الصورة ، وتزجيني على هيام من ذوبان في صفاء في عينيك ، وفي رقة عطر ألملمه من سناء ملاسة في خديك ، ومن موج شهوة تضرب عاصفة في شفتيك ، ألملمها بأطراف شفتي وأذوب في غمرة من حس ، أغدو بموجاته أدور بأهواء عاصفة من عشق تعصف بي ، تحملني على أكفها وتسرح بعيوني في مفاتن أتملاها من صورة تلو أخرى ، أفتش في حناياها عن هذا السحر الذي لا ينفك يمتلكني ، ولا يتركني مرة بلا ذوبان في رقة من هيئة ملأى بأنوثة لا يملك مثلي من أمره في مثل حال كهذا الا أن يهيم اليها ملبيا نداءها ، فلا أجمل ولا أحلى ولا أرق منها أنوثة تحدثني ، فيا ويحي ماذا كان يمكني أن أفعل بلا هذه الأنوثة الصاخبة التي تتهادى في شارع من شوارع القدس وتقول بكل صيحة الأنوثة خذني اليك فاني اليك خذني خذني اليك ، وأمد أطراف أناملي ، ولا أجد بينها سوى الصورة ، فيشب حريق في أرجائي ، أتوه عن نفسي ) . وأردفت تسألني عن رأي لي في كتابات لك أرسلتها لي ، ورسائل غرام أودعت نفسك فيها لتعانق نفسي وأنا أفرأها ، فقلت لك بحرارة ولهانة : ( أنا – يا حبيبي – أقرأ كل كلمة تكتبها ألف مرة ) ، و( تطوف عيناي في كل صورة لك عندي ألف مرة ومرة ) ، فهاج بك الغزل ، فأمطرت حلاوته في أذني ، فكأني على نار شوقي اليك أتقلى، قلت : (ألف مرة أفتش في كل لحظة في عينيك عن سحر البيان ألف مرة ، ألف مرة يا حبيبتي ، أفتش في عمق الهوى في عينيك عن بديع ينهله حرفي حبرا ، يرسم به اليك هذا العمق الذي أراه في بؤبؤ عينيك ، يا حبيبتي اني أرى الحياة في عمقها تطل من ثنايا هذا البياض الذي يحيط بهذا الذكاء الفارش ملامحه، والبائن من بين رموشك ، أنظره يا حبيبتي ، أحاول أن أقرأ عمق الوجود وعمقي فيك ، عمقك أنت في ملامح حروفي في جوهرها ، أفتش ألف مرة في عينك كل لحظة ، فاتركيها كما هي يا حبيبتي ، ودعيني أنظر فيها ، انشغلي بأي شيء تريدين واتركيني مع عينيك ، فلعلي أفهم سيرة الغرام التي تسيرني بها هذه العيون ، فمن يوم أن أطلت عيونك على عيوني لم أعرف أن أرى سطوري بغيرها ، هي شعلة النور التي أرى بها في نهاري ، فلولاها لكان النهار ظلاما والليل كوابيس ) . وبينا أنت تشنف أذني بأرق حس وأعذب عبارة ، وتهيج بنفسي ، بحلاوة عشق ترسله من فم كل كلمة تفوهها ، وتعلو بنبض الدم في عروقي ، نظرت في مرآة صغيرة بيدي ، فاذا هي خدودي مثل وردة جورية حمراء ، فقلت لك : يا حبيبي ، تعال خذني اليك ، فهذه الخطوبة بها من لواعج الأشواق والحرائق ما يفنى به العشاق أمثالنا ، وهذه كلماتي أريد أن أقرأها عليك ، فصابر نفسك دقيقة أو أكثر ، واهدني صمتا في خلاله تسمعني ، فنبست شفتاك بحنان ملتاع : هات من جمالك الفتان عطرا أتعطر به ، فسالت من فم عطري روائحه : ( يا له الحب في عمق ملامحي ، هل رأت عيناك مثل جمالي ، رسا حبي فيك من غير أن تدري ، في عروقك أودعته رقتي وجمالي ، أوصيته أن يظل في حناياك ناشطا ، يجمعني في فكرك و الروح والشريان ، تطيب نفسك بكل صورة لي أبقيتها ، أنت تحبني وأنوثتي تكلمك بذكاء ، فلا كانت مثلي أنثى تصدح بالغناء ، أغني لك أنوثتي وهذا حبي تريده ، فلا تلمني وقد تلكأت عنك أنغامي ، فاني أخشى عليك مني حين تراني ، يفر العقل منك ولا غير أحضاني ، وتودع الوعي منك كل آن فيه تراني ، اني أعرف بأنك تهواني وتهواني ، وتودني أظل بين يديك بأنوثتي وحناني ، تريدني أبقى أغني بأنوثتي وهيامي ، أسكن بين ذراعيك وأبقى بينها زماني ، زمانك أنثى هي أنا وأنت على ضفافي ، كأني قيثارة أوتارها بين أناملك ألحاني ، دعني بين ذراعيك يا حبيبي أغفو ، فيا له الحب يكتبني من غير سؤالي ) ، وما أن أتممت قراءة ما كنت كتبته في دفتري ، حتى فوجئت لأول وهلة بصمت يضمك تحت جانحيه ، فقلت في نفسي ، فلعلها آثار حروفي في نفسه ، تبحث في داخل هيامه عن سياق من عطر يتهافت به على نثره في أنفاسي ، فقلت أترك له انسراحه حتى يعود منه ، فاذا هو الهناء في ألفاظك يتدفق بك وينساب موسيقى من عطرك الى أذني : ( أنت القيثارة أوتارها تحنو ، وأنت الألحان يا أحلى غناء ، وأنت نهر الحلاوة وعيونها ، أشرب منها صبحي والمساء ، لا تعذريني بصمت يربكني ، فحين عطش فمنك الارتواء ، يا روح الروح اليك روحي ، فهات من عينيك الرواء ، مدي رموشك واتركيها ، فأنا مشتاق اليها والشفاه ، وناوليني من ثغرك ابتسامة ، أساقي بها ملامحي والوفاء ، وهات الورد من خديك أقطفه ، طاب شوقي اليك والعناق ، يأخذني الهوى واني بك متيم ، أهذي ليلي وأسال عنك السماء ، وأغرق فيك في أحلام تشربني ، يا ويلاة متى تلثم شفتي حبة ماء ، تعصف بي صورة أنثى تحبني ، فهنا كانت وكنت ومتى اللقاء ، تراني والجنون بات لا يفارقني ، أم تراه الجنون وأنا والحب سواء ) . ويا لها من لحظة فارقة بين الشعور ، وبين العقل ، فأول ما انعقدت في أذني كلمة الحب بكلمة الجنون ، حتى أطل عقلي ، يتساءل بزخات من أسئلة ، شاغلتني وحيرتني ، أيام انشغلت في دراسة العلاقة بين الحب والجنون ، ما دعاني الى قولي : هات عن الحب والجنون ، أريد أن أسمع المزيد ، يراودني أحيانا أن الجنون له أشكال متعددة ومنها الحب في أعلى مراتبه ، فاذا الجنون خارج العقل ، ولا حب في العقل ، ولا عقل في الحب ، فكذلك الجنون ، فاذا لم تجد فيه عقلا مثل العقل ، فلا ينفي ذلك بأن ثمة عقلا فيه له فاعلية ووجود ، ومثله الحب فكينونيته بذاتها دالة على فاعلية لها ، وهو ما يدلل على أن ثمة عقلا غير العقل ، فثمة تكافؤ بين الحب والجنون ، أو لربما أبعد من ذلك . وقد لاح لي بأنك حين أحسست بأن علم النفس والفلسفة تأخذني منك ، أبيت الا أن تقطع قولي ، فتهافت بأصداء صور لي كنت أرسلتها اليك : ( انتظري ولا تستعجلي كلماتي ، فأنا تحت زخات من العطر ، تنهمل من صور ثلاث لك جاءت تحيل فصل حياتي الى فصل شتاء ، تحت الأمطار لا أزال اتملي من بوح خدود الورد وشفاه العطر يا جمال أيامي ، فاعذريني في سباحتي في أنوثة تحدثني من خلف بنطال وصدار وتغرقني في الهيام ، مثقل أنا بهذه الرقة التي تقول لي ، هل رأيت مثلي تأثيرا في نفسك في مدى الأيام ، وأهتف لا تكف يا مطر عن الانهمال ، تساقط على نفسي وعقلي ، وانتظرني حتى أملأ الصفحات من مشاعر تتدفق بها الصور في أقلامي ) ، فلم يمكني وأنت تغتسل بأمطار تنهمر من صور لي الا أن أقول لك : (نفسي في شوق الى نفسي ، تحملها كلماتك الى نفسي ، تحمل عطرا نهلته حروفك من شفتي ، ومن خدي ، شعري لا زال على كتفيك يبعث في أرجائك موسيقى حبي ، فبرقة وحنان جمعت بذراعي صدرك الى صدري ) ، ما أوزعك على استمطاري ، أردتني مطرا من غرام ينهمل على أذنيك ، وقد سألتني أبضا عن استعمالي لأشياء بديعة كنت أحضرتها لي آخر مرة زرتني فيها ، فعدت أقرأ في دفتري : (أشياؤك لم تزل في العين يانعة ، تقيل عني بشدوها بعض عناء ، تأخذني والشوق بي اليك يهفو ، وأشرب حروفك حتى ارتواء ، أفترشها وهي وسادتي والغطاء ، تهيم بي شوقا اليك فكأنه يوم لقاء ، هي أنت عندي توقدني بالهناء ، وتبعث بي كل نشوى وارتقاء ، تعلو بها نفسي فريانة وامتلاء ، هات اروني واشبعني من الغناء ، هات قصيدة منك تلامس أعماقي ، اكتب لي كلاما أضمه بأضلاعي ، القصيدة جذوة نفسي تهيج بي ، أفتش في سرها عن سر أسراري ) . وما أن فاهت نفسي بآخر كلمة حتى انتبهت الى أبي وهو واقف ورائي ويبش لي ، فوضعت الهاتف وعانقته ، فوضع قبلة على جبيني ، وقال : الحب يا بنيتي سبب التفاهم ، وسبب التجاوز لكل صعوبة في الحياة ، ولا أعرف في حياتي مثل الحب هاتفا يهتف في الوعي وبصورة دائمة بالرغبة في حياة أفضل ، وينزع بالانسان الى صناعة الابتسامة ، حتى وان ضاق بأمر يضغط عليه ، فهو الحب ، ابتسامة الفكر ، يؤسس للقدرة على رؤية الفرح ، ذلك بأنه الأجدى بأن يكون فارشا ظلاله ، فأن يحيا الانسان ، وفي وعيه وازع على انتاج الابتسامة هو أمر هام في الحياة . وكان أبي يتحدث والابتسامة لا تفارق محياه ، وقد وضعت سماعة الهاتف أمام فمه لكي تسمعه ، وما أن انتهى من كلامه حتى أودع في نفسك قوله لا تنسى غدا ، ما دعاني الى الرد بقولي : كيف أنسى وينسى وتنسى وهو يوم ميلادي ، وبعدها تواصينا على الكيفية التي يكون عليها احتفالنا . وقبل أن يغادر أبي غرفة نومي ، طافت عيناه في الغرفة ، وضحك بصورة مذهلة ، وغادرني ليعود بأمي ، الى الغرفة ، وهو يقول لها ، قولي لي ما الفرق ؟ ولم أفهم مقصوده الا أني سرعان ما فهمت ، بأني أكرر أمي في علاقتي بحبيبي ، فصور حبيبي على فراشي ، عند وسادتي ، وعلى جدران غرفتي ، وبجانبها كلماته الحلوة التي تمر عليها عيناي كيفما دارت في الغرفة ، وحقا أحسست بنوع من الحياء ، جلست الى حاسوبي غير عابئة بالاحراج الذي اجتاحني ، فما كان من والدي ، الا أن قال : أبعد الهاتف تتحاوران عبر الحاسوب ، بالصوت والصورة ، فقليلا من النوم ما بنيتي ، لكي تصلبي عودك غدا ، فقلت : يا أبتي : وهل النوم يسألنا وقتا يضمنا فيه ، فعندما يغرب بنا عن الحركة فهو يصر على ما يريد ، حتى نكاد لا نجد في ذاتنا ما يغلبه ، فمتى يحل تكون ارادتي خارج ذاتها ، ولا أتعرف الى ذاتي الا ساعة أن أفيق من نومي ، فقال : صوابك هذا لا يعني بأن لا نلتفت الى نظام حياة يريحنا في دنيانا ، وتركني هو وأمي ، وتناجينا بعدها عبر الحاسوب ، فأنت تراني وأراك ، وتكلمني وأكلمك ، حتى ساور النعاس جفوني ، فاستأذنتك أن نخلد الى النوم ، فاتجهت بكاميرا الحاسوب صوب فراشي لكي تراني ، وما كدت أختفي عن عينيك بين فراشي وغطائي ، حتى نهضت وعدت لأراك كيف تأوي الى فراشك ، ثم لم نتمالك ، نقل كل منا حاسوبه الى فراشه ، نرتوي من همسات نفوسنا ، فوجهك على الشاشة أمامي ، وكلماتك تهمس في أرجائي ، فكأنها أناملك تضرب على أوتار مشاعري فأتدفق بالنشوى ، وبقينا على هكذا نشوى ، حتى خط الوسن جفوني ، وأخذني النوم الى أحضانه . وما كدت أغفو حتى رأيتك في المنام جالسا على صخرة قبالة الشاطىء ، تطوف بناظريك في السماء ، ثم تذهب بنظراتك بعيدا في البحر ، ثم تقوم من مكانك ، وتأخذ حفنة من الرمل وتذروها في الهواء ، وتتابع حبات الرمل حتى تنزل كلها مرة أخرى الى الأرض ، وتهرول تارة وأخرى تبلل قدميك بالماء ثم تعود الى الصخرة ، وتضع رأسك بين راحتيك وتقول : (مشيت في صحراء الحياة فلم أجد واحة ولا ماء ولا تمورا ، حرارة تشب في حسي تذريه عيونا وجفونا ، فهنا أنثى ذات خصوبة وأخرى هيفاء ذات قد ممشوقا ، وهنا غادة يتلهف الولهان على عطش يرويه منها منهوما ، وما يعرف ولهان كيف يصبو الى ما لا يعرفه كامنا فيه مخبوءا ، أين أنا ومن تراني ماذا يدعو عقلي لكي لا يراني ، هل أعرف نفسي بعقلي أم هي النفس دليلي الى حالي ، يا ويلاه أين معرفة بذاتي كيف لا تداني ، كيف لا تعرفني وهي معرفتي وأعرف بأنها غنائي ، ضلت المعرفة بي دربها حين عرفت كيف تنساني ، هامت بي على وجه حيرة فحيرني الحب وأضناني ، هل تراها هذه أم تراها تلك ، فأين هوائي ، أين أنفاسي ، أين لؤلؤتي الكامنة في أعماقي ، كيف أعرفها وتعرفني وأعرف بأنها حياتي ، يا له القلب كيف ينبض نارا تحرث في أرجائي سؤالا حائر ، يسألني ، أين أنت يا حبيبتي ، أين أنت أيتها الراسية - من قبل أن أولد - في عمق أعماقي ، أين أنت ) ، فالى هنا ، التفت الى الوراء لتجدني أصيخ السمع اليك ، فانفتلت من مكانك ، وأمسكت بأطراف أناملي وأطلت النظر في عيوني ، فسألتك ، فمن تراها هذه التي تبحث عنها في أعماقك ، ولا تعرفها بغير أن تكون ماثلة أمامك ، فتقول : ( أنتى يساورني طيفها غزلا يفيض في قلمي حروفا ، كأني بلا طيبها لا أعرف كيف أتنفس سرورا ، ولا أدري كيف يمكني بلاها أن أرى وسط الظلام نورا ، بهاء طلتها للورد غناء يقيم لي في الأرجاء ثبورا ، يوزع في الحنايا موسيقى تبعث النشوى دروبا ، قصيدتي منها أنهلها وأسكبها لاهثا بجمالها مبهورا ، أنوثة تضج بي على عمقها في نفسي ، تشب بي حريقا ، يا ويح الهيام يتلهف بي على ضمها مسحورا ، تسري في عروقي حرارة تحيلني عليها ملهوفا ، هي جملة الحب التي ما عرفت لغيرها دروبا ، أسرتني ، ويا ليت أني عرفتها منذ زمن ، فما أبقت مني غير خافق القلب بها مجنونا ، يا لها الأيام تضمني وهي في قلبي لألآءة تغمرني حبورا ، هي أنت التي هامت بي في كل سناء وأبقتني بحبالها مأسورا ) . وهنا ضمني الحياء ، ورحت أهرول وأنت تهرول ورائي ، وحين التفت اليك ورأيتك لا تتوقف ، رحت أتباطأ في نقلي خطاي ، حتى اذا أدركتني أخذتني بين ذراعيك وأنت تقول لي : دعيني أقول اسمك ، فهذا الاسم لا بد فيه من منابت الشمس ، وفيه ما يبشر بالنهار ، ودلالات على تراجع ليلي ، فقلت لك : وكيف عرفت ، فأنا شروق ، وما كدت أنطق اسمي حتى أحسست بأنك تكاد تعتصرني ، واذ ذاك رأيت أبي على البعد وهو يصيح : أين أنت يا شروق ، واذا هو وراءه أناس كثيرون يعزفون الموسيقى وينشدون . وعندها أفقت من نومي ، على أنغام موسيقى ناعمة ، مثل نسائم البحر في بلادي ، فمثلها تسلل من شباكي ومر طيبا في أنفاسي ، بينا كانت خيوط من أشعة الشمس تزور فراشي ، ما أجمل شمسك يا وطني ، أنا أحب وطني ، الحب وطن الحب ، الحب يسيرني في حياتي فحياتي حياة الحب ، فوطني مليء بالحب ، فالانسان الذي يحب ، يعمره الحب ، يرسم له الحب علاقته بأهله وبوطنه ، فلا أظنن تكاملا انسانيا لمجتمع بلا الحب ، أعطني حبا أعطيك حياة سعيدة ، وأعطيك مجتمعا يسوده السلام الاجتماعي ، وأعطيك مجتمعا انسانيا متكافلا ، يقوى على مشكلاته ، ولا أظن وطنا يعلو بالحياة بلا الحب، اذا أردت قيما انسانية رفيعة تسود العلاقات الاجتماعية فأولا الحب ، ضع قواعده وارفع قوائمه واعلو واعلو في بنيانه ، تجد الآمال التي تعمرك في الحرية محققة بجهد جماعي بين يديك . أنا أحب وطني يعني أني أحبه أن يكون دوما في العلياء ، فأبذل ما أمكنني من طاقة من أجل رفعة مكانته في عيون أهله وفي العالم بأسره ، لا تحسبن وطنا يعلو بلا حب يبعث أهله على البذل والعطاء ، ولن تجد حرصا على علو قامة الوطن ، بغير الانتماء اليه ، والحب تراب الهوية ومكوناتها ، بمائه تتشكل وتكتسب جوهرها وتعلو ، وليس مثل الحب قدرة قادرة على تعميق وتأصيل الدافعية لدى الانسان في الحرص على بلده ، فأنا أحب بيتي ، اذن أنا على استعداد لعمل كل ما يرفع من شأنه ويحفظ أمني وأمنه ، فالرفعة والأمن ثمرات الحب الذي يبعث نظرات الأمل في عيون الحاضر ، ويتدافع بالارادة والفكر الى ما يجعل الأمل حقيقة واقعية في مستقبل الأيام . فهذا ما دار في ذهني وأنا لم أزل في فراشي بينا عيناي تحدق في خريطة فلسطين المعلقة على الحائط أمامي ، فلقد علقتاها يداك ، قلت لي يومها : افعلي ما تفرضه سيرة الحب ، تغمضين عينيك وخريطة فلسطين بين رموشك ، وأول ما تنظرين حين تفيقين من النوم فاليها ، فالذاكرة تحتاج الى ما يستبقيها مستنفرة بصورة دائمة ، فأمن عش الحب يعني أمن الوطن ، مناخ حياة الحب ، فأنا أحب ، فشاغلي الأمن والحرية ، أكون حرا ، أوفر أمنا ، أحيا حبا ، أبني عشا يغني الوطن بالمناعة ، فالحب ابتسامة الحرية على شفاه الوطن . فهذا قولك كلما أستذكره تتشابك في الوعي عندي هموم الوطن مع هموم الحب ، ولقد ألقيت بقولي هذا على مسامعك أكثر من مرة ، وما من مرة منها الا وتوقفت طويلا عند هموم الحب ، ولعل أبلغ هم هو ما يستنهضه هذا التهديد الذي لا يتوقف للحب في ربوع بلادنا ، فمن يدري ، فلربما يتناثر عش حبنا يوما ، فأصبح في زنزانة وأنت تحت التعذيب في معتقل آخر ، يا ويلاه ، ومع ذلك يبقى الحب ريقا رطبا يبعث دوما على التشبث بالآمال ، والالتصاق بها حد عناق الروح للروح . فكل هذا ماجت بي موجاته ، وعيناي لا تنزل من خريطة بلادي ، وما هي الا لحظات حتى رنت في أذني طرقات على بابي ، فاذا هي أمي تستعجلني بقولها ، بأنك في انتظاري تحت الشجرة وارفة الظلال ، التي تعشق الاستظلال بظلالها ، فسارعت من تأهلي للخروج الى استقبالك ، و ما أن دانيتك ، حتى شاعت البشاشة في ملامحك ، فيا ما أحلاه الحب ، ويا ما أرواه للنفس الجوعى الى الحبيب ، فلولا أن أبي كان يعالج شجيرات قريبة من مجلسنا ، ومعرفتك بأن أختي تطل علينا من شباك بيتنا ، لكنت أخذتني في أحضانك ، فأنا قرأت هذا في الشهوة التي تقادحت من عينيك ، أفلا تذكرها موجة الكهرباء التي مرت بين عيوننا مثل خطفة البرق ، فما هذه الكهرباء ، فأنا لم أزل لا أعرف تفسيرا علميا لها ، أتراها النفس العطشى تطل من العيون وتنطق بحقيقتها ، بهذه اللغة التي نحسها مثل الكهرباء . سألتك ولم تجبني ، وانما أرسيتني على الانتباه الى ما أنت راغب بالنطق به ، وفهمت ، وأصخت السمع ، فاذا أنت تقول : ( هل رأيت الأطيار وهي راقصة على الأفنان تشدو ، وكيف الأزهار تتمايل نشوى توزع الجمال والعطور ، والجبال بأشجارها باسطة فروعها زاهية بالشموخ ، والربيع ، وهذه خضرته نشوانة في الغدو والرواح ، وكيف الروابي باسمه تزهو ، تسورها رفعة وفخار ، والنسائم كيف هي مياسة ناعسة تسيل على الخدود ، والوجوه تتهلل فرحانة توزع البشاشة في الطرقات ، والموسيقى والغناء وزقزقة العصافير في كل الأنحاء ، سألت الشمس وكانت توزع شعورها في كل البقاع ، قولي لي يا منابت النور ما سر هذا النهر من الحبور ، أطوفان سعادة جاء يغسل الدنيا من شقاء وضمور ، هاجت الأهازيج باسمة تغني ميلاد شروق ، ولد الجمال ، وطابت روائعة في جملتي : أنا أحبك يا شروق ) . وما أوشكت على نطق اسمي حتى سبقتك الى قولي ( وأنا أحبك يا أبا سامح ) ، ما أدهشك ، فقلت : ( سامح ) ، فلماذا ليس ( شامخ ) ، فقلت لك : سامح يكون شامخا ، وأكثر من ذلك ، فليس الشموخ وحده يكفي الحب معانيه ، ولا بكاف الوطن مبانيه ، فكم من شموح مر به وطن بأثر عوامل هددتها قيم شاعت في المجتمع بسبب من غيبة المعاني التي يشيعها الحب ، فلو أن فعل (سامح) ، كان وازعا لكل نفس ساعة تحادد أو تنابذ أو تنافس ، لسبقت الحسنى الى احتلال العلاقة ورسم مستقبلها ، فسامح باعث على بنائية لعلاقة بماء تسامح ، بنظرة تطل على مستقبل بما ينطوي عليه من حاجات لتعاون ، فصيرورة سامح في اعادة بناء لعلاقة تضيف في تماسك مجتمع ، بل هي ضرورة هذا التماسك ، وهي حاجة أواصر لأن تظل في وحدة تكفل لها دوما أن تضيف في البناء فيعلو ، وعندها وقد تهلل وجهك ببشاشة كادت تسحبني الى أحضانك ، قلت برقة الورود والابتسامة تتهادى على شفتيك : اذن أنت أم سامح ، وأنا ابوسامح ، وهذا الاسم جاء من فم الحب النابت في حب الوطن ، ومع ذلك ، فأنا لا أفهم لماذا لا ننتظر صاحب الاسم حتى يكبر فيختار هو بنفسه الاسم الذي يرتاح له ، فقطعت كلامك وسألتك ، فكيف نشير اليه من يوم ميلاده حتى يصبح ممكنا له أن يختار الاسم الذي يريد ، فقلت : بأي اشارة ، المهم أن يكون هناك اتفاق على أن يكون الاسم خصيصة صاحبه ، يختاره بنفسه ، وهنا لم يمكني الا أن أفوه باعترافي ، بأن ثمة حيرة لا تعرف حلا لها الا بأن تسبق الأسماء عقول أصحابها . فأخذت مني الكلام ، وقلت وعيناك تطوف على صدري ، بأن كل الأسماء في كل الأزمان محتاجة الى شروق انسانيتها على علاقاتها ، وأيضا أن تعيش حريتها ، واذا غاب النهار فتعلقها دائم بشروق نهارها ، فمتى تشرق الشمس ، أو متى يبزغ فجر النهار ، هو السؤال الذي يظل الأمل يموج به في أعماق حاجتها الى عيشها انسانيتها ، وهذه الانسانية التي يا طالما ننطقها ، انما هي بمعنى الحرية ، فمناخ تحقق الانسانية هو الحرية ، فما دليلك أيها الانسان الى حريتك ، انها انسانيتي ، هات نهارا بلا نور ، انزعي النور من النهار لا تجدي نهارا ، لقد انتزعوا الحرية من نهارنا فغدا ظلاما ، هل ترين نورا في هذا النهار ، وهنا باشرتك بقولي : هو أنت نوري في هذا الليل الذي يسمونه نهارا ، فضاء وجهك بما تردد في أعماقك من أصداء قولي ، فزادت لهفتك علي وأنا بين يديك ، وبظني بأنه لولا أنا كنا تحت عيون والدي وأختي ، لكنت ضممتني ، ولكنك تمالكت ، وقد عرفت هذا من لغة حدثتني بها عيونك ، وامارات شاعت في محياك ، وحركات أنبأت عنها أنامل يديك . ما زاد في استنفار مشاعري التي صاعدت من دفق حرارتها فراحت تتقلب بين أنفاسي ، وقد أنبأنتني موجات سرت في شفتيك ، بأنك تتغنى طربا للحريق الذي أنشبت نيرانه في أرجائي ودلت علاماته عليه، فلم يعد يمكني اخفاء أنفاسه . فعندها أرسيتني على اهتمامك بيوم ميلادي : تعالي نتماثل شروق الحرية ونبتهج بميلاد شروق ، فاستجابت عيوني وقد ملأها الغرام متسائلة ، عن صواب انشغالنا بمظهر فرح في يوم ميلادي وسط أجواء تموج بكل توتر ، وتومىء بما تفيض به من أسى ،على الحاجة الى اقالة حزن من عين لا تكف تدمع على فراق عزيز ، فكم من أسرة حولنا تمد بصرها الى سجن أو معتقل ، وكم من طفل مات أبوه وفي قرارة نفسه يعتقد بأنه يقيم لحرية الوطن أركانا ، وكم من ظروف تقطر قسوة أحاطت بأسرة بقدرة احتلال احترف صناعة البؤس انتاجا لركوع لن يأتي ، وما أكملت كلامي حتى ضجت بهجة في أسارير وجهك ، وهاج لسانك صادحا بقولك : اني أسمع حروف شروق وقد لامست حاجات هي في حقيقتها ضرورات ركائز شروق لنهار يتراجع أمامه سواد الليل ، فمتى تراها كتل الظلام سوف تفر تحت ضربات شروق حرية من زند حرية ، فيا لفرحتي بتكامل وعي بدرب حياة يحيني ، اني مثل شجرة ترابها وهواؤها وماؤها الحرية ، وها أنت شروق كلمة الحب على شفاه حياة تحلم بنهار عدل وحرية ، يحتاجنا جميعا الى المزيد من الكد لاستخراجه . بدا لي عندها بأن الوطن يغمرنا بحبنا له ، ويتماثل أمامنا بحقنا في الحرية ، بينا أنت لا تتوقف عن كلامك وتقول : ألا ترين معي اللاجئين يعودون أفواجا أفواجا الى ديارهم ، وأقول لك من فوري : بلى ، اني أراهم يعودون ، انهم يأتون من بين ثنايا الفجر ، ويقرؤون السلام على الوطن ويدخلونه آمنيين ، ما أجمل العودة والعائدين ، وتقول لي : العودة يا شروق كما شروق الشمس ، انها هزم الليل بحروف من نور ، أفلا ترين ما أراه بأن العودة هي حل أزمة أمة بحالها ، وأقول لك الأمة مأزومة بعجزها عن انتاج فجر العودة ، فاذا أنتجته ، تخلصت من عجزها ، وتصدرت قيادة التاريخ ، وتقول لي وأنت تستخرج بيدك من جيبك مفتاحا قديما ، أحالني أول ما عانقته عيناي الى مرجل يوقد بحب الوطن ، فمرت في خاطري مشاهد بيتنا القديم في حيفا الذي أعرفه من صور مرت عبر الأجيال تنقل حكاية عودة لا مفر منها ، فحتما تكون ، وأيضا تذكرت حكايات كان جدي يحكيها لنا ، فندت عيني دمعة وخطني حزن ، طواني على داخلي في لحظة من وقت ، تنبهت بعدها الى أناملك وهي تمسح دمعة تلو دمعة ندت على خديك ، ونشج صدرك و كدت تجهش في البكاء ، الا أنك تماسكت ، ثم وضعت رأسك بين راحتيك ، فناولتك منديلا معطرا ، ودانيتك ووضعت راحة يدي على رأسك ، وودت لو أضع وجهك على صدري الا أن الحياء استوقفني . فناديت على أبي وأشرت اليه أن يأتي ، وكان مشغولا بأشجار في الحديقة ، وكنا نراه ويرانا ، فسارع الينا ، ونادى على أختى بأن تأتي بالقهوة ، وما أن قاربك حتى جلس الى جانبك على المقعد الممتد بطول أمتار تحت الشجرة ، وأصبحت بيني وبينه ، وقد أحس ما بك ، فملامحه تبدلت ، فضمك الى صدره ، وقال هات يا شروق منديلا آخر وامسحي دمعة محمد ، فكأني والحياء قد ودعني رحت أقيل الدموع من على خدودك بيدي ، بينما أبي راح يقول : ليس مثل الحب ماء يشرب منه الصبر ، فلولا هذا الحب العظيم للوطن ما أمكن الواحد منا أن يصابر نفسه على ما يعانيه من قهر لا يتوقف ، فصبرا يا محمد ، فشروق نهار الوطن قادم لا محالة ، ودماء أهلك باقية في ذاكرة الوطن ، بقيت أنت وحدك من أسرة كاملة ، ذهبوا جميعا شهداء ، فداء للوطن ، لقد مات أبي وهو يحدثنا عن جدك البطل الشهيد ، نحن أهلك يا محمد ، كان والدك صاحبي وعندما رأى شروق وهي لم تزل في المهد صغيرة ، احتضنها وقال : احفظها لمحمد ، كان ذلك بعد أن قمنا معا بتنفيذ مهمة خطيرة ، خرجنا منها سالمين باعجوبة ، والفضل يعود لأبيك ، ومرت الأيام ، أنت ذهبت فيها الى التعليم في الخارج ، وأنا أمضيت في السجن سنيين طالت ، ولما خرجت رحت أبحث عنك ، كان لا بد لي من الوفاء بعهدي لأبيك ، واني أتمنى عليك أن تكون على قدر آمالك وأحلامك ، وبأن تكون قارئا متبصرا للتاريخ ، فتاريخ هذه المنطقة قد شابه زيف لا بد من افتضاحه ، وهذا يشغلني كثيرا ، واني الآن أتركك وشروق لتفكرا معا في يوم زفافكما ، وقد كان بودي أن يكون اليوم هو يوم زواجكما معا ، الا أن أم شروق قالت لي اترك الأمر لهما ، فهما أدرى بحالهما ، واني أتركك وشروق ، لأنهض بأمور تنتظرني . غادرنا أبي ، بينما أنا في حضرته كنت مغمورة بتلك الدقائق التي التقيتك فيها أول مرة ، فلم أكن أعرفك من قبل ، ولم يحصل أن رأيتك من قبل ، ولا كان هناك من أومأ لي عن علاقة لربما تصلني بك ، لكني كنت أسمع أبي وأمي يطيلان الحديث بين الحين والآخر عن والدك ، ولم يكن لي أن أفرق بين ما يرويانه عن أسرتك وبين ما يرويانه عن بقية الأسر الفلسطينية التي بذلت أعز ما تملك من أجل الوطن . فأول مرة زرتنا فيها ، أجلسك أبي الى جانبه هنا ، على هذا المقعد الذي نجلس عليه الآن ، وكنت أنا وأختي جالستين بعيدا من هنا تحت تلك الشجرة التي هناك ، انظر اليها ، لا نعرف ما علاقتك بأبي ، ولا ما تتناولانه من أحاديث ، ونتساءل فمن تراه يكون هذا الشاب الأسمر الذي يستأنس به والدنا ، فعاطفة أبي بالامكان رصدها عن بعد ، ثم اهتمام أمي بك ، فكل ذلك جعلنا نعيد ونكرر بيننا ، فمن تراه يكون ، وماذا دعاه الى زيارتنا ، ولم يخطر على بالنا بتة ، ما ترتب على هذه الزيارة ، فلا زلت أتذكر أبي وهو يومىء لنا بأن ندانيه ، فقمنا من فورنا ، وما قاربناكما حتى تأخرت أختي ودانيتك أنا .. كنت أنا التي أحست بأن ثمة ما يدعوها الى الدنو ، وعندها بدا عليك بأنك تقصدني في لغة مشاعر فاضت منك ناطقة ، حتى بدا لي بأنك لم تعد تتمالك نفسك ، نهضت من مكانك ودنوت مني ، فتألقت عيوننا ، ومن دون أن تدري لامست أنامل يديك ذراعي ، ما أذهلني ، ومع ذلك لم أرتد الى الوراء ، دنوت منك أكثر فأكثر ، نسينا مرة واحدة أين تقف أقدامانا ، غرقنا في التأمل في بعضنا البعض ، فعيناك غرقت في عيناي ومثلها فعلت عيناي في عينيك ، كأني في عينيك وكأنك في عيوني ، أحسست عندها بأن موجات لم أعرفها من قبل تضرب في أرجائي ، ولا أدري كيف انتبهت الى أني في حضرة والدي ، فقلت : أبي ، هل تأمرني بشيء ، فقال : الحياة يا بنيتي ، الحياة أمانة ، واني أترك لك أن تقرري في شأن حياتك ، فهي حياتك أنت ، وقام من فوره وأحضر لنا باقة ورد ، ودعا أمي وأختي . وقد فوجئت باحتضان أمي لك بحرارة شديدة وتقبيلها لك ، وهي تقول لك ، يا مرحبا يا ابني ، كم أنا فرحانة بأننا حققنا لوالدك رغبته ، كان كلما رأى شروق يلاعبها ويقول لها : أنت تراب وطني الذي سوف يحتضن ذريتي ، واستمراري حارسا لتراب بلادي ، وكانت شروق وهي لم تزل صغيرة ، ولا تعرف كيف تميز مقاصد أبيك ، تتفلت انتباه له ، وتحب مداعبته لها ،وأن تسمع منه ، فكأنها في قرارة نفسها تريد أن تأخذ عنه وتحفظ صوته في أعماقها كذخيرة تحتاجها في مستقبل أيامها ، ولا أزال اذكر قوله لنا ، بعد أن أطال النظر في وجهها وهو يحتضنها ، اني أرى الفداء في عينيها ، وأرى الحرية قادمة من بين رموشها ، واني أمنحها اسم فدى مضافا لشروق ، فلعلي استبقي معها معنى لحياتي في خدمة وطني ، وكان يقول أحيانا ، وهو يداعب شروق ، عروس محمد ، لها شعر ذهبي استمد لونه من مهرجان شروق الشمس ، فهو بشارة زوال الليل ، وعيونها فيها زرقة ، تفكر ، تتساءل ، تدل بعمق النظر فيها على سماء نهار قادم ، يا طالما شاغل بتساؤلاته كل الأحرار ، ومشيتها فيها تمايل الورد ، حين تلاعبه نسائم الربيع ، ما يجعلني أرى ربيع وطني بين أنفاسي ، وهو الحس العميق الذي لولاه ما اقتدرت على صعوبات عند ضفافها قعد الموت في انتظاري ، وكان مرة وضع يدها على زناد بندقيته ، وجعلها تشم رائحة البارود ، وأكثر ما شده من تصرفها دموعها التي أصرت بها على أن تأخذ لنفسها البندقية منه ، ما أسال دموعه ، لقد رأيته ساعتها وصدره ينشج ، لا أدري ما دار في ذهنه الا أنه قال وهو يمسح دموع شروق بأطراف أنامله : فأين يذهبون ، والى أين يفرون ، فها هم أطفال فلسطين ، في عمقهم رست حرية وطنهم ، ويعرفون من قبل أن يشبوا عن الطوق درب الخلاص من براثن الاستعمار . فكل ذلك مر في خاطري ، وعيناي تطوف ما بين المفتاح القديم الذي أردته عهدا بيني وبينك في يوم ميلادي ، وبين عينيك التي تكتب بفصل شتاء حل بها وفاء عزيزا لوطن عزيز ولشهداء هم أعز الناس . واذ ذاك ، وعلى غير انتظار منا ، كانت المفاجأة ، عاد أخي من ماليزيا ، وطرت من مكانك اليه ، سبقتنا اليه ، وما أن اتخذ مكانه على كرسي قبالتي أنا وأنت ، حتى راح يقول بأن حضوره المفاجىء ، انما كان بترتيب بينه وبين أبي ، وبأنهما اتفقا على أن يكون بهكذا حال ، وقال موجها الكلام لي ولك ، لقد أحضرت لكما هدية ، ونهض الى حقيبة كبيرة كانت بيده ، ثم قال : هذه ملابس تشبه التي لبستها دلال المغربي في رحلة عودتها الى الوطن ، فسبقته الى قولي : أوفيت بوعدك لي ، فهي لباسي وزينتي في يوم عرسي ، وأضاف قوله ، وهذه بدلة رائد فضاء ، وهي للعريس مهندس الطيران صديقي الحالم أبدا بأن يصبح رائد فضاء ، ثم قال : الليلة ليلة زفاف محمد وشروق ، فهكذا يريد أبي ، واني غدا صباحا لمسافر لاستكمال دراستي ، فمن يدري ، فلربما نصنع معا أنا ومحمد طائرة من دون طيار . وقد طال حديث أخي بينما أنا أضع وجهي بين راحتي تارة استرق النظر في خلالها الى من حولي ، وتارة أخرى أتملى منك ، أدور بعيناي عليك ، أحاول أن أقارب لنفسي الساعة من الليل التي نكون فيها وحدنا في فراش واحد ، ولم أعرف حاجتنا للأمن مثل ما عرفتها وأنا سابحة في نفسي ، فقد خطني سؤال ، فماذا لو قاموا بمداهمة بيتنا ، في تلك الساعة ، وماذا لو احتجزونا وأخذوا كل واحد منا الى سجن ، فكل هذا حصل مع غيرنا ، فيا له الفراش الآمن ، انه الوطن الحر . وهنا نهضت أختي من مكانها وتباعدت وهي تذرف الدمع ، ثم تدانت وهي تقول وصدرها ينشج ، وهل أبقى وحدي في البيت ، ولماذا لا يكون عرسا مثل كل الأعراس فأرقص وأغني ، أفرح في يوم زفاف أختي ، فقمت اليها وأخذتها بين ذراعي ، وسارعنا جميعا أنا وأنت وأخي الى قراءة الفاتحة على قبور الشهداء ، ومن بعدها رحنا ندور على بيوتات رفعت أركان الحرية بشهيد أو أكثر ، وفي خلال ذلك زرنا أهالي السجناء الذين ضاءت الحرية ببذلهم ، وما زالوا خلف القضبان ، وأعطينا مما نملك بحسب قدرتنا الى من بهم حاجة . وعدنا واذا هو أبي في انتظارنا ، وما كدنا نحيط به حتى قال : العرس سوف يقام في بيت محارب قديم أصر الا أن يذكر أباك ببعض من وفاء ، وسوف يحضره محاربون قدامى ، ونساء باعهن طويل في الكفاح من أجل الحرية ، واذا ثمة غناء لربما نسمعه ، فللشهداء والسجناء والثورة ، واذا ثمة عطر سوف نستنشقه في تلك الأجواء فعطر البارود ، ما دعاني الى التهافت بقولي : وصديقاتي يا أبي وأصدقاء محمود ، فقال : العرس مرحلتان ، فالأولى ما ذكرته ولن تدوم أكثر من وقت يتم فيه تناول الطعام ، فكل الحضور يهمهم أن يعانقوا ابن صديقهم ، فلقد أفنوا شبابهم في رفقته وتحت قيادته ،وأما المرحلة الثانية فقد اهتمت بها أمك ودعت كل صديقاتك وأما محمود فكما تعلمين فقد عاد للوطن منذ أيام ، ولا يعرفه أحد سوانا هنا فكل وقته أمضاه في الدراسة في روسيا ثم في ماليزيا ثم في أميركا ، ولم أكن أعرف أين هو ، حتى عرفت من أخيك بأن صداقة عميقة تجمعه مع محمد ، فسارعت الى استدعائه ، ولم يكن يمكني أن أنسى وصية أبيه لي اذ قال : يكون زواج محمد في أول يوم ميلاد لشروق يصادف بعد الخطوبة ، وهذا ما دعاني الى الاصرار على أن يكون اليوم هو يوم زفافك اليه ، فالوفاء يا بنيتي ، عمل يحتاج الكثير كما ترين . وما أكمل أبي كلامه حتى جاءت أمي وبيدها بندقية تقول لمحمد هذه بندقية كانت لأبيك أبقاها عندنا كهدية لك في يوم عرسك ، فامتدت يداك الى البندقية سراعا واحتضنتها ومشت قبلاتك لاهثة على مواضع مختلفة منها فكأنك تتماثلها يد أبيك ، تعاهدها بأن تمضي بالأمانة الى مداها ، فملامحك نطقت بأن عقلك وقلبك انتزعا مرة واحدة من كل رباط لهما وتعلقا بالكفاح من أجل الحرية ، فعيناك برقت فأشعلت الثورة بين أقطاري ، وجسمك أرعش معلنا عن رعد يقصف بين جوانحي ، ما أوقدني الى حد التفلت من مكاني لأطير الى ما يمكني به أن أكتب سطرا في سجل الثائرين الخالدين ، وأذهلني فصل شتاء حط في مواقد عينيك ، فاذا هي سحب تسبح في وجنتيك وتمطر على ايقاع بريق يتوهج من حدقات بين رموشك ، وأنت ساهم شارد الذهن ، يغمرك صمت عاصف ، فكأنك بركان يوشك أن يعلن عن مكنونه . فترددت في ذهني تساؤلات عن أوضاعنا ، فما أحوج شعبنا الى الطاقة الكامنة فيه ، فهي في جانب منها في ثلاجة تتجمد بحرارة من لاتواصل ولاتفاهم ، ولا اتفاق على أسلوب زحف نحو الغايات السامية ، فكل ذلك صناعة الارجاء والتأجيل لدور لا يصح له أن ينتظر ، وأحسست في غمرة ذلك بأني مقبلة على زواجي من وطني ، وبأني لا بد وأن أملأ الأرض زنودا وعقولا ، تستولد شروق الحياة الكريمة العزيرة الآمنة في الربوع ، وقد خطني حس بالمرارة ، اذ جابني تصور لحبنا الذي ولد في الحصار ، بأنه مهدد بقمع الغرباء ، كما الحياة التي سوف نستولدها معا في فراش الحب .. اطفالنا الذين نتوق الى رؤيتهم ، لا نعرف الآن ، أيان سوف يقفون ، على خط النار يستحلبون الشمس شروقا ، أم في زنزانة أو سجن ، أو يلتاعون بغربة ، ويكدون من أجل عودتهم الى الديار ، فأمن فراش الحب أمن حياة ، وأمن وطن ، وأمن حاضر ، وأمن مستقبل . واذ ذاك ، وبخطفة برق طاف بك الوفاء في كل واد ،وضمك الحب ، فغرقت في بكاء مرير ، ما جعلني أغرق في حبي ، وأجهش في بكائي بكائك ، وبينا عيوننا تغتسل بدموع حبنا ، كان أبي يمد بصره اليك ، وفي جبينه تتهلل العزيمة وقد لاحت كما الشمس تحيط بها هالة من حنو بالغ يغمره ، فاذ ذاك راح ينقل الخطى بطيئا اليك ، بينا عيناه الحانية بكل دفء لا تنزل منك ، فما أن أصبح أمامك مال بصدره نحوك ، وهو يتندى حنوا ، ومد أطراف أنامله اليمنى الى أسفل ذقنك ، بينا يده اليسرى حطت على كتفك تربت بكلام من دفء ، وكنت أنت قد تباعدت بوقع العاصفة التي هبت عليك من أعماقك ، حين لامست يداك بندقية أبيك ، وجلست على مقعد قريب ، وبظنك بأنك بذلك تريح نفوسنا من صوت أسى جابك وحزن افترشك ، ودمع اغتسل بك ، وما خطر على بالك بأننا جميعا مرآة بعضنا بعضا ، فأمي قد وارت ما جابها بلجوئها الى داخل البيت ، وأخي سارع بخطواته الى أبعد نقطة في ساحة الدار ، وأختي تكورت على نفسها تحت شجرة بعيدة وأخفت دموعها براحتيها . وما مر من الزمن ما يعدل أن يصابر كل نفسه ، حتى قال أبي لك بصوت خفيض ، يتهدج شوقا الى أبيك ووفاء له: ارفع رأس يا محمد .. الى أعلى ، كما هامة والدك ، كانت عيناه تحلق دوما الى أعلى ، فالبندقة وديعة أمل في عنق ارادة ، فهي اصرار شعب على أن يظل شامخا ، ثم أخذ بيدك وقال : هيا يا عريس ، ونهضت والبندقية بيدك ، كأنما أنت ذاهب الى الحرب ، ثم علقتها على صدرك ، وخطوت نحوي ، حتى كاد صدرك يلامس صدري ، فرعشت مشاعري ، واذا به أبي يطوقنا بين ذراعية ، فكأنه يجمعنا بذراعي محارب يودع فينا التصاقا بغايات وطن جاع بنوه الى حريتهم ، ويقبلني ويقبلك ، وبتلقائية عاشق لامست شفتاك جبيني ، فأرخى لنا والدي ، فوجدتني من فوري أتعلق على رقبة أبي وأقبله ، ثم أنثني اليك فأتعلق على صدرك ، أضمك بشوق وطن الى عودة أبنائه ، فتتوه عن نفسك ، فتنزل شفتاك على شفتي ، وتضمني وأضمك ، والبندقية على صدرك وبين ثديي ، كأني في غمرة حبي على موعد معها بأن أرضعها من حليب حياة تتواثب على حرية وطني ، وسرعان ما توردت خدودنا من خجل حين أنبهنا صوت لأبي وهو يرن ، بأن دورة الأرض تعلن عن أن نهار هذا اليوم يوشك أن يتثاءب ، وفهمنا بأن نسارع الى ما يتوجب أن نقوم به ، قبل أن تأتي الساعة التي نعد الوقت اليها لحظة بلحظة ، فمشيت بمشية أبي وعيناك لا تنزل مني ، ولحق بكما أخي وبيده كل ما يلزمك كعريس . وبقيت أنا أتهيأ بمساعدة أمي الى زفافي اليك ، ويا ما أسعدها ساعة وأنا ألبس لباسا يا طالما تمنيته زينتي في يوم عرسي ، خالخني حس بأني هي ، فكأني أستعيدها عروسا للوطن ، في يوم عرسي ، تسمرت عيناي على صور لها معلقة على الحائط في غرفتي ، وتمنيتها بدلا عني وتمنيت نفسي بدلا عنها ، واني لكذلك دانتني أمي وقالت : تعطري بالبارود يا بنيتي في يوم عرسك لكي تفهمي عميقا دورا تمليه عليك زينتك التي بها تتوهجين ثورة ، فهو الوطن ينادي عليك ، فأنت أنثاه ، فلبي بعطر الحرية نداءه ، ثم انسرح فكرها ، وعادت بدمعة على خدها ، وهي تستذكر الظروف التي ولدتني فيها في السجن ، وراحت تحدثني عن زميلات لها مناضلات ، لاعبنني ، وأودعن في ذاكرتي أسماء القرى والمدن التي يرنو اللاجئون بأبصارهم الى العودة اليها ، وما تركتها أختي تتم كلامها ، أذكرتها بأن العرس يعزف نشيده ، فطارت من ذكريات أليمة الى فرح تستدعيه بأن يفترش محياها ، وبدت وهي تغالب نفسها بأنها تحاول أن تستخرج نفسها من ألم يعتصرها الى انشراح صدر تود لو يكون لها ، وما هي الا ساعة أو أقل من ذلك ، حتى قام الوطن يوزع على بنيه أمانة العودة اليه ، فيا ما أروعها ليلة ، افترشنا فيها الوطن ، فانشغلنا في تهيئة خندق بزراعة البذور فيه ، أملا في حياة تتدفق منه بنهر يغتسل به الوطن ، فلعله يعود سيرته الأولى . ................14/ 7 /2011 [email protected] صفحات من كتاب ( الحب ) للكاتب ..لن يصدر قريبا دنيا الوطن