حقائق التاريخ الناتئة حد الفجور، تعيدنا إلى السؤال الأول حول ماهية الحضارة، وتكشف تهافت التعميم الاستنسابي الذي يقرن الحضارة بتواريخ معينة ومناطق محددة. بل تضعنا أمام سؤال الحضارة والهمجية بوصفهما وجهي عملة كانت وما زالت تعيد إنتاج نفسها في كل مكان، حتى إننا ندَّعي بأن لكل شعب حضارته وهمجيته، ولكل مكون تاريخي نصيب من المستويين .. لا يتميز فيها أحد عن الآخر، وهذا بالضبط ما ذهب إليه الشاعر المُتَروحِنْ والفيلسوف الهندي الأريب (طاغور)، عندما قال إن وحشية الإنسان ظهرت منذ أن وضع سوراً بينه والطبيعة، ومنذ أن بنى لنفسه بيتاً صغيراً يحجب عنه ضوء الشمس ومعارج الطبيعة, وهذا ما أدركه قبل ذلك فيلسوف البراميل (يوجين الإغريقي) وهو يرفض منطق (الاسكندر المقدوني) في الغزو الدائم، واجتياح بلدان الغير بقوة السلاح. رؤية طاغور تتقاطع سلباً مع الفلسفة الأوروبية بشقيها المثالي والوجودي، ففي حال المثال الهيغلي لا معنى للماوراء دون جدل فلسفي مادي واضح المعالم، وفي حالة سارتر الوجودي حد الجفاف يكون الإنسان مركز الكون، وكل حقيقة موضوعية تنبع من ذاته، لا من الوسط المحيط، وكأن الإنسان الفرد يقبع في منطقة الأُلوهة المقدسة، كما لو أنه الصانع لما هو موضوعي! ومن هنا نرى معنى الغرور الفلسفي عند أوروبا المنتشية بتاريخ العقل والبرهان، وفكرها الخاص الذي جنحت به إلى حد اعتباره مركز الثقل الأكبر في عالم المعرفة والفكر، فمن الإغريق تبدأ الحضارة، وإلى مآلاتها تذهب، وما عدا ذلك ليس إلا عوابر شاردة مازالت تتوه في أفلاك اللا معنى! لقد أفضت بنا هذه التخريجة الجائرة إلى منطقة الكائن المُتصدِّع، وإنسان ما بعد الإنسان، مع قدر من التضاؤل الغريب أخلاقياً وسلوكياً، بل ضياع البوصلة في التعامل مع الظواهر. لسنا بحاجة الآن إلى تِبيان الأخطاء القاتلة التي وقعنا فيها جميعاً، لكوننا اعتبرنا الكرة الأرضية رهناً لنا ولإرادتنا القاصرة.. لسنا بحاجة الآن إلى معرفة السبب الحقيقي وراء استمرار الوحشية العُنفية بأشكالها الفيزيائية والنفسية حتى نتيقَّن من أننا فعلنا كل ذلك خياراً لا جبراً. الفوبيا المرضية السائدة، وفوضى الظواهر الطبيعية، والصراعات العدمية المقرونة بثقافة الكراهية المتبادلة، والريبة التي تصل إلى حد السيكوباتزم.. هذه كلها جاءت نتاجاً طبيعياً لاعتقاد بعضنا بأنه يمتلك الحقيقة, وأنه يمثل الحضارة دون من سواه. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك