أفضى فساد النخبة السياسية في تركيا الى تفكيك بنية الدولة لصالح نفوذ العصابات وهوامير المال اللاهثين وراء المزيد من المصالح غير المشروعة، التي حرسها وانغمس في جزء منها غلاة العلمانية، الذين أطاحوا بالعديد من الحكومات المنتخبة في سبيل ذلك، يوم كابدت أمتهم الفقر والخوف وكادت أن تتجرع مرارات لحظة انشطار دولتها. ومع مطلع العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كان قدر تركيا أن يُسجل على ترابها لحظة ميلاد أول ربيع شرقي، أفضى إلى استعادة كيان الدولة من يد العصابات التي أنتجتها فترة تحكم غلاة العلمانية. تشويه ذاتي كان سيحسب للعلمانية التركية حفاظها على أدوات التغيير السلمي، التي أبرم عبرها حزب العدالة والتنمية عملية استعادة الدولة، وهو إنجاز تاريخي، كان بإمكان التيار العلماني أن يكسب على إثره ثقة قطاع واسع من الشعب التركي، إلا أنه لم يكن بوسع هؤلاء الغلاة، الذين استباحوا كرامة دولتهم الحفاظ عليه يوم قرروا حراسة مصالحهم وحلفائهم عبر التحضير السريع للإطاحة بحكم العدالة والتنمية، سواء من خلال المطرقة أو أرجينكون، أو غيرها من الأسماء التي باتت محفورة في وعي المواطن التركي ضمن قائمة التشوهات، التي أنجزها غلاة العلمانيين في جسد الديمقراطية، التي تُعد أبسط التزامات العلمانية التي يتشدقون بحراستها، بالإضافة الى متاجرتهم المفضوحة بالقضية الكردية، وبالتالي فتح الكثير من معابر التدخل الخارجي أمام المتربصين بالأمة التركية، فضلاً عن حراسة هذا التدخل الذي عصف باقتصاد البلاد وأمنها. تحصين الجبهة الداخلية خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين أنجزت أنقرة إصلاحات واسعة، تطلبتها عملية استعادة الدولة وتلبية شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وحين أوصدت في وجهها الأبواب بقرار أيديولوجي أملاه ساسة اليمين تلبية لرغبة الهوامير، توجهت شرقاً لتسجل حضوراً متسارعاً فرضها كلاعب إقليمي معتبر، ومنحها من خلال السوق الشرقية الخصبة طوق نجاة من الهاوية الاقتصادية التي عصفت ولا تزال بالأوربيين. وكذلك عبر مؤسسات تركيا الجديدة والقوانين النافذة واجه ساسة أنقرة الجدد، المنحدرين من جيل ذاق مرارات الاطاحة بتطلعات الشعب التركي بكل حزم، كافة تربصات البنية الهرمة لغلاة العلمانيين المثقلين بمصالحهم ومصالح حلفائهم غير المشروعة، وأبرزها فوائد الدين العام والخاص لتسفر النتيجة عن خسارة فادحة للهوامير العالمية وحلفائهم المحليين، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة مطرقة قضاء لا يتسامح مع النيل من الأمة التركية، التي بات كافة أطيافها يستوعبون إنجازات استعادة الدولة عبر حواسهم الذاتية، لا من خلال تلبيسات من فقدوا مصالحهم. هدنة مؤقتة بالتزامن مع إنجازات أنقرة الداخلية في بناء مشروعية سياسية سلطانها ومصدرها الوحيد الشعب التركي، بالإضافة إلى القضاء على الاقتصاد غير المسجل وإنجاز بنية اقتصادية معتبرة، مع البحث عن حلول جذرية وجادة للمشكلة الكردية، وبالتالي إيصاد معابر التدخل الخارجي. مع انطلاق موجة الربيع العربي مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين نعتقد أن جدل التيار العالمي لهوامير المصالح غير المشروعة حول التعاطي مع تركيا الجديدة، التي لم يعد ثمة مكان فيها للمصالح غير المشروعة، كاد أن يُحسم لصالح التعامل مع الدولة على حساب المنظمات التي أفل دورها وأوشكت أن تتحول الى محض تاريخ سيئ. من المؤكد أن التيار العالمي لهوامير المصالح غير المشروعة كان سيواصل محاولاته الانتقامية، بغية تحصيل شيء من مكسب تغييب الدور المحوري للأمة التركية، الذي كان في عهدة غلاة العلمانية وبات استعادته من قبل ساسة أنقرة الجدد يؤرق أيدلوجياً تيار الهوامير المنحدر معظمه من الأفكار المحرفة للديانة اليهودية أو المتلبسين بها نتيجة الضخ الثقافي المهيب الخادم لها في الغرب. نعتقد أن رغبة قطاع واسع من رجال الأعمال حول العالم في تحصيل المكاسب الاقتصادية المشروعة والمجزية، التي باتت تمنحها السوق التركية المتعافية من الأزمة المالية كان لها دور إيجابي في فرملة التوجهات الانتقامية لتيار الهوامير الراغب من جهته في التفرغ للحفاظ على مكاسبه التي يهددها الربيع العربي القادم فجأة والمتسع بشكل مخيف، فقرر مهادنة أنقرة التي باتت جبهتها الداخلية شبه محصنة، ولعل التطورات السريعة التي شهدتها مباحثات ملف القضية الكردية توحي بتشكل هكذا توجه. مربع جديد لمواجهة الدولة لم تنكفئ تركيا على ذاتها في عملية استعادة الدولة والقضاء على المصالح غير المشروعة، بل وجدت في الربيع العربي سندها الملائم لمساعدة الشعوب في إنجاز ذات المهمة، وبالتالي إلحاق مزيد من الهزائم بتيار الهوامير من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن، وكذلك في القلعة الحارسة لإسرائيل، حيث أطاح الأسد الأب برجالات سوريا الوطنيين لصالح المهمة، التي تحولت سوريا على إثرها إلى “سورية”. يحضرنا بالمناسبة شهادة جوهرية في هذا السياق، يمكن التقاطها من خلال حديث للمدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، ليس كامبل مفاده “أن شباب الربيع العربي قرروا تحدي التيار المتحكم بالعالم” ما يعني نشوب مواجهة بين الطرفين. نعتقد التحرك التركي المفضي لا محالة إلى توسيع نطاق استعادة الدولة شرقاً، بالإضافة إلى دور أنقرة في تقزيم أحد أهم أدوات اللا استقرار، التي في عهدة الهوامير ممثلةً في إسرائيل لصالح النفوذ التركي المتصاعد والمتوائم مع دول الشرق، لا سيما العربية قد أفزع هذا التيار الذي بدأ يرتب عمليات إقلاق أنظمة ما بعد الربيع بالتعاون مع الفلول وقرر معاودة البحث عن أدوات تفرمل طموح أنقرة وتعمل على إفشال نموذجها المغري لشعوب الشرق، التي تصارع للانعتاق من ذات البؤس الذي تجاوزه الشعب التركي. نعم أنجزت حكومة أردوغان شوطاً كبيراً في المصالحة مع “اسرائيل” غير أن الهوامير المتربصين بتركيا يؤمنون بما لا مجال فيه للشك أن تركيا قوية و“اسرائيل” قوية لن يجتمعان في المنطقة، وأن ساسة أنقرة الجدد يحملون على عاتقهم بالفعل لا القول مهمة تحرير فلسطين التي احتلت من قبضة امبراطورية الحكم العثماني. العبور من تقسيم لا نعتقد أن هذا التيار أصبح يثق بقدرة طرف ما على مستوى الداخل التركي في تنفيذ المهمة في مواجهة وعي المجتمع واستقرار وقوة المؤسسات التركية اليوم، غير أن من المؤكد أن استعادة ما فات من مصالح، بالإضافة إلى قبض الثمن قد تلبس رأس بقايا غلاة العلمانيين، الذين ذهبوا إلى تعبئة الرأي العام التركي وإثارة مخاوفه من أداء سياسة أردوغان خصوصاً ما يتعلق بتعاطيه مع دول الربيع العربي، وذلك تمهيداً لاستعراض قوتهم في الشارع وبعث رسالة للهوامير مفادها ما زلنا قادرين على إثارة مخاوف الشارع التركي وتجييشه وبالتالي نحن أهل لقبض الثمن. نعتقد أن التفاهمات حول سيناريوهات محاولات فرملة الدور التركي وتحديد نقطة الصفر، بالنسبة لانطلاقها لم يكن قد تم الاتفاق عليها، حين انطلقت احتجاجات ناشطين من حماة البيئة على تطوير ميدان تقسيم غير أن المتلهفين لقبض الثمن قرروا ركوب الموجة لتحصيل ثقة الهوامير في قدرتهم على فتح معابر جديدة أمام التدخل الخارجي. من حسن حظ تركيا وحكومة العدالة والتنمية أن خفة الأدوات المحلية، الراغبة في تسويق نفسها أظهرتها غير قادرة على تحديد ساعة صفر سيناريو الانتقام - الراغبة فيه والمطلوب منها – وأن وعي المجتمع قد اضطرها إلى الانجراف وراء ساعة صفر عجيبة، تجاهلت دور أردوغان في تحويل اسطنبول إلى ما يمكن وصفه على المستوى البيئي بحديقة العالم لينكشف على إثرها حجم التربص الخارجي بتركيا، وبالتالي إنجاز مؤسساتها المختلفة المزيد من الإجراءات الوقائية في مواجهة ذلك. توقعت في مقال سابق نشرته يومية الجمهورية في العدد (15691) بتأريخ 5 /12/ 2012 “أننا سنشهد محاولات انتقامية من الدور التركي الماضي، في اتجاه استقرار المنطقة من خلال اتجاهات متعددة منها المحاولات المستميتة لإفشال التحركات التركية، وربما تنامي العمليات الارهابية في تركيا عبر أدوات تيار اللا استقرار الذي حكم تركيا من خلال بعض أبنائها لقرون، وكاد أن يدمرها ويفككها ومن خلال نظام الأسد في سوريا كأحد قلاع هذا التيار المشارفة على الانهيار، ومن خلال افتعال أزمة في مصر الثورة، التي تراهن تركيا ودول العالم عليها في لعب دور بارز في استقرار المنطقة، ومن خلال الأدوات الاعلامية التي تشوه الصورة النقية للدور التركي وتحرفه عن سياقه الرئيسي كدور إنساني تنموي قائم على أدوات الدبلوماسية الحديثة إلى دور سيئ قائم على أساس تصدير العنف”. كما توقعت أن “أنقرة ستفرمل بعض هذه الاتجاهات بمساندة المجتمع الدولي المحتاج لتنامي الدور التركي في المنطقة، وسيبقى بعضها أشبه بظاهرة كلامية لا تأثير لها في القرار الرسمي”. فلول الربيع ينتقمون لأن عملية استعادة الدولة تهدد مصالح هوامير محلية وعالمية لم يكن غريباً أن يلتقط فلول بلدان الربيع العربي الفرصة، التي آلت إليها احتجاجات تقسيم للنيل من دور تركيا في تصدير نموذج بناء الدولة إلى بلدانهم، فضلاً عن تعزيز فرص تسويق أنفسهم كأدوات قادرة على الإسهام في هكذا مهمة، يقودها تيار عالمي من الهوامير التي فقدت مصالحها غير المشروعة. شاهدنا وقرأنا واستمعنا من خلال إعلام الفلول في الشرق وإعلام تيار الهوامير على المستوى العالمي إلى عمليات تزوير وتضخيم كبيرة لاحتجاجات تقسيم، بغرض زعزعة الثقة في النموذج التركي المساعد لأنظمة الربيع العربي على الاستقرار وبناء الدولة، عبر تجسيد كونه فاشلاً يعاني المشكلات في عقر داره. إدراك متفاوت رفضت أنقرة بشكل قاطع أي دور خارجي حاول عبثاً أن ينحشر عبر ساحة تقسيم، وجاء ردها العملي موفقاً من خلال تدشينها عملية حوار داخلي مع المحتجين أفضت إلى سحب غطاء المحتجين والذهاب نحو تعزيز الأدوات الديمقراطية، ممثلة في الاستفتاء الشعبي وانتظار الكلمة الفصل من القضاء. لعل من سوء حظ الفلول على المستوى العربي وبقايا غلاة العلمانية على المستوى التركي، أن الشعوب باتت تدرك أبعاد ما يجري وإن بشكل متفاوت نتيجة تفاوت مستوى التثقيف والتعليم، ولعل حشود أنقرةواسطنبول والوقفات الخارجية المؤيدة لحكومة العدالة والتنمية، التي عكست ذلك كان وقعها مؤلماً على كافة المتربصين بشعوب الشرق المنفكة من أسر الديكتاتوريات ونفوذ هوامير المصالح غير المشروعة.