كل شيء يبدو لي أنه يفرح؛ هو بالحقيقة يمارس طقوساً خاصة بالحزن، لا يوجد هنا مكان خاص بالفرح، الفرح ليس أكثر من بروفة لطيفة للحزن، فالحزن طاغٍ على الأنفاس والحركات، حتى موسيقى الفرح تحمل في طياتها أنغاماً حزينة هي أقرب إلى البكاء، الطير الذي يصدح صباحاً هو في الحقيقة يبكي أمسه الذاهبة ويومه التي يطويها بمنقاريه كما طوى أيامه الآفلات. مع الأفول يتسيّد الحزن ويتضاءل الفرح، مع الأفول كل شيء يبكي؛ مهما تعدّدت لغة الأفراح يبقى الحزن هو المسيطر والدمعة السائلة من عيون القلب، هي الحقيقة الجارفة لكل ما عداها. تبدو لي الحياة والأيام «كومة حزن» محشورة في ظهر العمر الماشي كعابر سبيل ليس له إلا عصاه المسافرة التي تُومئ إلى الطريق؛ ربما تقف لتشير إلى الأنفاس الماضية التي كانت تبتسم يوماً أو تبدو بصورة الفرح الباكي، وبكاء الفرح هو أقسى صور الحزن التي تمر على قلب الإنسان الذي يلملم أحزانه ولا يكاد يفرغ منها حتى تدهمه أخرى؛ ليكون عبارة عن كومة من الحزن الذي يتدفق مع الأنفاس والحركات ولقاءات الأحباب التي تجلب الحزن وتدمي الفؤاد. فوراء كل لقاء للأحباب قصة فراق دامعة تتشكّل، ووراء كل بسمة منتشية مسحة حزن تخربش الخدود الجميلة والثغور الباسمة. الحزن هو الحزن، يصاحبنا ونصاحبه، أو قل يضعنا في «مسب» الأيام لتكون حياتنا قصة حزن ودمعة فراق ونهدة أسى، هذا لا يعني أن نشطب الحياة وننهي الأمل، فالأمل هو المسار المضيء لتجديد السعادة والانطلاق إلى الواجب وإعمار الحياة. مهما كان، فعلينا واجب الإعمار والحضارة والعبادة، وتخفيف كُرب الآخرين؛ وكلها أمور تخفّف من الأحزان، وتجعل للحياة مذاقاً آخر دون حرص أو ظلم أو طغيان, ودون كسل أو يأس أو إحباط؛ بل عمل مصحوب بخلق الإحسان وثقافة صناعة الفرحة، وتقديم الخير لكل إنسان ومخلوق وذي كبد حي. إن معرفة حقيقة الزوال ومركب الحزن يجعلانا نرنو إلى حياة الخلود من خلال إعمار دار الحزن بتطبيق قاعدة الحياة المؤمنة، والعمران من أجل العمران كمهمة ورسالة «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة؛ فليغرسها». هنا يتضح أن المؤمن يعمر ويعمل ويغرس الخير بعيداً عن الأنانية التي تزيد السواد سواداً، والحزن عتمة ووحشة، ويستبدلها بالإيثار والتضحية، ونشر الحب للإنسان والحيوان وأنفاس الكواكب والمجرّات والكون الفسيح؛ باعتبار أن الإنسان قلب الكون النابض بالتسبيح لله القدوس الحي الذي لا يموت. [email protected]