إن بعضا من أهم روّاد مسيرة الثورة البصرية الكتابية في الثقافة العربية، كانوا أدباء وشعراء مكفوفي البصر، امتلكوا ثقافات موسوعية من خلال القراءة، وأنجزوا للأدب العربي بعضا من أهم تحولاته البصرية من خلال الكتابة، ففقد البصر قد يكون دافعا، لا عائقا، للانخراط في ثقافة الكتابة والتدوين، في ظل توقد الذهن والبصيرة، وإلحاح الشعور بالحاجة إلى قناة تواصلية مناسبة، للاطلاع على نتاجات الآخرين، وأهمية التدوين الكتابي لحفظ ونشر نتاجاتهم، فكان للمعري كما لبشار وطه حسين، غلمان يقرأون ويكتبون لهم، هذه المبادرات هي التي حفظت للأدب العربي كتابي (سقط الزند واللزوميات) من الضياع، إذ وجدت ضمن الأوراق التي خلفها المعري بعد وفاته. بدوره دفع العمى بشار بن برد إلى أن يستخدم غلاما لغرض القراءة وكتابة أشعاره، وإيصال قصائده إلى الآخرين، كما كان يتراسل كتابيا مع حبيبته “عبده”، وجعله هذا يتأثر بأسلوب الرسائل، وإذا كانت كتابة الشعر على شكل رسالة أمراً كانت تفرضه الحاجة البرجماتية الملحة في الشفاهية الجاهلية، ومنها قصيدة لقيط الإيادي يحذر قومه من الفرس، في قصيدة عنونها شعرا: سلامٌ في الصحيفة من لقيطٍ ... إلى من بالجزيرة من إيادِ فإنه في عصر بشار يصبح ثقافة تداولية للشعر، بجانب أن العمى دافع براجماتي أيضا، فكان بشار من رواد فن المراسلات الشعرية، ومنها مراسلاته مع حبيبته “عبده”، ومعاتبته لها على جفوتها في مراسلته: منَ المشهورِ بالحبِّ ... إِلَى قَاسِيَة ِ الْقَلْبِ سَلاَمُ اللّه ذِي الْعَرَشِ ... على وجهكِ ياحبِّي لقدْ أنكرتُ يا “عبدَ” ... جفاءً منكِ في الكتبِ ومع أنه ادعّى أن عشقه سماعي، (الأذن تعشق قبل العين أحيانا)، لكن أكثر ما يلفت في شعره، هي صوره البصرية المدهشة التي تفوق فيها على المبصرين، وكانت مثار عجب القدماء والمحدثين، كما أن من المعاني التي لم يسبقه إليها أحد ، الحديث عن تصوير حبيبته، ومناجاة صورتها المرسومة على الرمل.. في مماحكة فلسفية طريفة، يقول طه حسين إن الأعمى قادر بغيره، في مقابل أن البصير قادر بنفسه، يقصد القدرة على القراءة الحركة، لكنه كان قادرا بنفسه وبغيره على إخراج النقد والأدب العربي من عماه التقليدي، وفتح عينيه على الشك العلمي والمنطق المنهجي، في ميادين الجدة والإبداع، كان طه حسين أكثر الثلاثة انهماكا بالقراءة والكتابة، في اللغتين العربية والفرنسية، وتحفل سيرته في “الأيام” بإشارات كثيرة إلى غلامه المجتهد، وزملائه الذين كانوا يساعدونه في الكتابة، لينهي الكتاب بامتنان بالغ وإهداء بليغ، لا للسانه وأذنيه، بل لزوجته الفرنسية التي أعانته كثيرا في القراءة والكتابة الفرنسية، واصفا إياها ب”المرأة التي رأيت بعينيها”. رابط المقال على الفيس بوك