حقب من الصراعات ومراحل من التحديات، لابد لها من إفراز مذاهب تنشق عن أصول الأديان والعقائد والأفكار، والمذهبية في عمق الأزمة هي من يؤسس قواعد المواجهة مع الأطراف الأخرى. والمذهب يمتلك القدرة على البقاء في نفس الساحة التي تفرضها عليه تقلبات الأحوال السياسية، وربما ينحصر دوره في ذاتية الجماعة التابعة له، وفي هذه الحالة يكون الاجتهاد المذهبي قد أخذ مكانة القيادة لرسم مرتكزات ما يجب أن يكون عليه ذلك المذهب، وكلما تراكم الاجتهاد في هذا المضمار، تتسع الرؤية لتتحول إلى نظرية تأخذ طابع المشروع السياسي الذي يخرج إلى الواقع كقوة تتجمع فيها أهم خصائص إدارة الصراع وهي: الفكر، القبلية، السلاح، المال، صياغة عقول الاتباع على مبدأ المذهب هو الإيمان المطلق ووضع المغاير في خطوط الصدام، وكل هذا يخلق أخطر ما في الصراع، فرض الذاتية ونفي الآخر. أما المشروع السياسي الذي يوجده المذهب ليس هو سوى الوجه الآخر من تعصب المذهب لخاصيته التي يرى بها الرؤية القادرة على طرح كل الحلول لكل الأزمات، ولا يدرك أصحاب هذا التصور المنغلق، بأن نفي الغير من دائرة الاعتراف هو ما ينزل بهذا النوع من الأفكار ضربات التساقط لأن الإلغاء الذي يمارس في حق الآخر هو ما يولد العجز والقصور في ممارسة العمل السياسي، غير أن حالة عدم الاعتراف بهذا الشلل الفكري يصبح الرائد في قيادة عقليات اتباع هذا المذهب، وهنا تتحول الفكرة من تصور إلى وسائل عمل، ويأتي السلاح في مقدمة هذه الأشياء المبررة لمبدأ سيادة القوة لسحق الطرف المقابل، وهنا تصبح الحرب هي التابو الذي به يقدم الاتباع مدى تمسكهم وإخلاصهم لهذا المذهب. والمذهب إن تحول إلى مشروع سياسي يسعى إلى ترسية حدود الجغرافيا، غير أنه لا يقف عند نقاط محدودة، فعلى الأرض يمتد إلى مسافات تمتلك القدرة على استيعابه، والبحث عن بيئات وعقليات مستعدة لتقبل مثل هذا النوع من العصبية المذهبية، وبهذا الفعل تخلق لها حضوراً في أكثر من اتجاه، وكلما توسعت مساحاتها كانت في مقدرة على فتح جبهات تصارع تعد هي الأخرى من عوامل تقوية المذهب لقوة سياسية تقود حروب فرض الوجود. فالمذهب عندما يصبح في قداسة الدين، وتسعى عقول اتباعه لاستخراج منه مشروعها السياسي الذي يجعل منها صاحبة الحق المطلق في قيادة حربها على الطرف الآخر، يكون المجتمع قد دخل في أخطر الأزمات ودوائر التناحر، لأن الحرب هنا لا تكون مجرد دفاعاً عن السلطة السياسية، بل هي تضحية تحت لواء المقدس الذي لا يجوز الخروج عليه. وتدلل شواهد التاريخ على أن حروب الأديان والمذاهب هي أخطر ما تنكب به البشرية عبر الأزمان، فهي سريعة الاشتعال، ونار حقدها تحرق الناس عقود بعد عقود، وفعل كل هذا تمركز المقدس في قلب هذه الفتنة، وفي هذا إلغاء لكل المحرمات التي تفرضها الأديان على الناس، ورفض لكل مرجعية تسعى لجعل الوسطية هي الميزان الذي يحفظ العقل والقلب والنفس من أهواء هذه الصراعات. أما اغتصاب حق الغير وتحويله إلى هدف يجب ضربه، هو المنطلق الذي يطرح للحرب غايتها المصاغة عبر عقيدة السلاح، وكلما حقق المذهب أكبر كمية من التدمير تتصاعد فيه رغبة قهر الآخر حتى تصل إلى درجة المحو التام، وكلما تصاعدت حدة الصراع في هذا الجانب، كان للجريمة أوسع الحضور في ضرب الخصوم، فالقتل وسفك الدماء هنا في محل القربان الذي يقدم على مذبح هذا النوع من التعصب، فالقتل هنا لا يصبح كارثة ولكنه انتصار على الذين حكم عليهم المذهب بالموت. ومن تراكم هذه الجرائم يصبح المشروع السياسي الذي يسعى المذهب لفرضه هو خلق سلطة القهر العقائدي والتي تتجاوز في خطورتها سلطة القهر السياسي، لأن المقدس هنا لا يحق لأي فرد وضعه في محل السؤال، باب التجاوز مغلق والحاكم هو من يحمي هذه الجماعة من شرك السقوط في إنزال هذا التابو من مكانه إلى قاع المواجهة مع حقيقة رفض عبادة الفرد وتقديس الاجتهادات، وهو ما تسعى المذهبية إلى رفع صورة المذهب إلى أعلى درجات النورانية حتى يغشى العيون فلا ترى منه غير الشرر المتطاير من لهيبه. وما يرى من واقع الحال في عدد من الدول الإسلامية، تصاعد الحروب المذهبية في العديد منها، وهذا يدل على أن المشاريع السياسية القادمة سوف تقوم على دويلات مذهبية متناحرة يفقد فيها الدين الإسلامي مكانه العظيم في وحدة الأمة، وهي كارثة كبرى أن لم ندرك أبعادها في الحاضر، سوف يكون القادم مرعباً، عندما تصبح هوية الإنسان ليست الوطن أو الحضارة أو الدين بل هي المذهبية التي تصبح المشروع السياسي الذي يحدد مقدار كل فرد في المجتمع، وفي إطار هذا ماهي الحياة الإنسانية التي على الفرد التعامل معها؟ إن الحياة ليس من حق أحد الانفراد بها، لأنها ملك الله وهو من له السيادة المطلقة على كل شيء في الوجود، أما الإنسان مهما أخذ عن الدنيا فلا يأخذ سوى البعض، ومن يظن أن الخلود له بما كسب، هو مثل الأعمى الذي احترقت أصابعه في النار فظن أنه يرى، وكل فكر رفض الغير سقط من رهان التحدي لأن الفردية تقتل تابعها. رابط المقال على الفيس بوك