عندما يدخل الفرد إلى إحدى الكهوف المنعزلة في الجبال، فإنه لا يجد غير الظلام كلما تعمق في السير، وأنواع من الأحياء التي لا تسكن موطناً غير هذا، فهي مع الظلام والانطواء قد أوجدت عالمها وصنعت حدودها، وكل ماهو خارج محيطها لا يقبل، ومن أراد الاقتراب من هذا العالم وتحسس ملامحه، عليه التخلي عن نور البصيرة حتى يتجانس مع ظلام الكهوف، ذلك الانفراد الذي جعل كائناته ترفض الآخر لأنه قادم عبر بوابة النور. لذلك بعض العقليات المنعزلة في قاع ظلامها والتي تجعل من الحجب والانقطاع عن الغير هوية وجودها فهي عبر الرفض والإلغاء لما خالفها تصاب بحالة مرضية شعورها بأنها هي من يتسيد على الموقف، وصوتها فهو الحقيقة التي ترسل للناس البراهين، أما مادونها هو العجز والإفلاس، لأنها هي من يمتلك الحق المطلق في القيادة، وعندما تتحاور مع الآخر فهي تنطلق من عقيدتها الظلامية القادمة من كهوف عزلتها، حيث نجد عندها في هذا الجانب حالة التعالي في قراءة الخطاب السياسي، الذي ترى فيها جزءاً من تحجر أفكارها والتصلب في المواقف إلى حد وضع معتقداتها في محل القداسة المطلقة، فأنت عليك أن لا تحاور بل تقبل ولا ترفض لأنك تابع، وكأن شروط النجاة من العقاب قد حددت في هذه الدوائر المغلقة من سلطة القهر. عقليات مثل هذه قدمت في دروس التاريخ ما نزل على الشعوب من خراب ودمار، لأن المراهنة هنا لا تقوم على مبدأ الحوار هو فن وليس نفياً، لأن مقدرة التحاور هي من يمهد لبناء كيان الأمة، أما أن تتحول هذه الخاصية الحضارية إلى جهاز اعتقال للرأي والذي يعد بداية ترسيخ معاني احترام إنسانية الفرد، ذلك ما يحول طاقة الوعي بالقيمة الموضوعية للمجتمع إلى قوة تصارع وتناحر تجلب من الانهيار والفوضى ما يؤخر تقدم الأمم لعقود من الزمن. من أخطر ما يصيب أفكار ومذاهب وعقائد وأديان الشعوب هذا النوع من الفكر، أحادية الجانب في الرؤية، والإلغاء هنا لا يقف عند خطوط رفض معتقد الآخر فكراً، بل قد تصل إلى حد إلغاء الجسد والمعالم الأخرى عبر القتل والتدمير، في حالة مثل هذه تصبح صناعة الموت جزءاً من قاعدة الانتماء طالما هناك من يتبع أفكاراً وصلت إلى هذا المستوى من الظلام، تصبح الجريمة من توابع هذا الاتجاه، فالموت هنا ليس من الكبائر، بل هو من الخيوط الخلفية المحركة لأصابع الغاية الموصلة نحو الهدف الأعمق. وما تجره هكذا أفعال على العقول والنفسيات، تصاعد الانقسام بين أفراد الأمة الواحدة، حتى تتحول إلى مساحات تقف عليها أكثر من أمة، كل واحدة منها تدعي أنها هي صاحبة الحق المطلق على الأرضية الواقفة عليها، وتشرذم مثل هذا هو من يصنع عصبة المناطق والمذاهب والأفكار أما وسائل التنفيذ يكون السلاح والرغبة في الانتقام هما اللسان الناطقة في لغة الحوار، وعندما تصل الأمة إلى هذا الحد من عقلية الانغلاق التام عند أفرادها، تكون قد دخلت مرحلة الاحتراق والتهاوي فهي لم تعد تملك من القوة غير تدمير الذات والتصارع على مشارف طموحات وأحلام لم تخلفها في عقولهم غير أوهام التسيد والقهر على الآخر، حيث تصبح عمليات إشعال الحرائق في أكبر مساحة من الوطن، المشروع السياسي الذي عبره ترسم ملامح حضورها، وهو حضور بالأحمر والأسود، لون الدم والتفحم، أما الحرب وإن طالت فهي المهرجان الأكبر لها وكلما طال زمن الدخان والرماد، كان الكسب أكثر لمن تاجروا بالأرواح على حساب القيم والأجساد على حساب الأخلاق، فالموت هنا لا يصنع النصر ولكنه يقدم مزيداً من طرد الغير إلى مسافات العدم. إن عجز عقليات الكهوف عن قراءة حقائق التاريخ حول سقوط مثل هذه حالات مهما طال زمنها، يدل على أنها قد عجزت عن الخروج من محيط فقدان التوازن، فهي إن خطت نحو بوابة النور تحترق لأن نسيج خلاياها لا يتحمل وجه الحقيقة، فهي أما أن تعيش في هذا المنغلق الفكري على ذاتها وتدافع عن وجودها من خلال رفض الآخر،و إما أن تسقط عند أول مواجهة مع حق الجميع في الحوار والرأي وكلما اقترب من نور التحدي تكشفت حقائق ضعفها وهشاشة وعيها الذي لا يزيد في مقدرته على التحمل عن خيوط العنكبوت وكل من تعمق في معرفة التحولات السياسية والفكرية والعقائدية يدرك أن مسألة التسيد المطلق لا تدوم، هي عقود ومراحل لكل منها أسباب قيامها وعوامل سقوطها، غير أن بعض الأمم تصاب بمرض عقليات مثل هذه، وتعمل على مصادرة حقها في العمل والفكر وتصبح هي الوصي عليها إلى درجة قمع كل من يتطاول على هذا الاغتصاب لحقوق الفرد والأمة. تلك حكاية مع تاريخ الإرادة والقهر، وما فصول الدم والموت سوى بعض من أبعاد الصورة التي ترسمها القبضة الحديدية الزارعة في القلوب أشواك المذلة الناصبة في العقول مشانق الخوف من الرأي المخالف، وربما تصبح رصاصة الاغتيال القادمة من الخلف أسرع من وصول ضوء الشمس إلى قلب الوردة، في هذه معادلة يشتد التحدي بين عقليات الكهوف وعقول تدرك أن للجميع حق الرأي والحوار والاختلاف في وجهات النظر، ولكن دون نفي الغير أو ممارسة سلطة القهر والتي إن زادت في حدتها تنقلب إلى سلاح يقتل حامله، ومن الغرور ما قتل، وعالم اليوم هو العقل المنفتح على الكل ولم يبق لعصر الكهوف مكانة، لأن الإنسان قد هجرها منذ قرون، فلا عودة لعصر الكائنات المنقرضة. رابط المقال على الفيس بوك