الخطاب السياسي في أي مجتمع يشكل الرؤية التي تلتقي عندها مقاصد العمل في هذا الاتجاه، فهو مقدرة على الجمع دون الإلغاء، والتحاور دون النفي والتواصل بعيداً عن مسببات الانغلاق، في هذا المضمار تتكون في جوهر الخطاب السياسي عوامل مشتركة متجاورة تستوعب حتى ما خالف نهج ما هو متفق عليه، لأن خاصية هذا الاتجاه التخاطب مع المفرد والجمع في معادلة تعد بوصلة الاتزان الفكري كلما سعى السياسي إلى طرح منهاجه وأفكاره وما يقنع بأن الحل الأمثل في هذا الجانب. وقراءة الخطاب السياسي كنص اجتماعي في أوضاع مثل حالنا يجعلنا ندرك أن هذا الاتجاه من حركة التاريخ يعاني من فرضية المصادرة والتفرد والتقوقع في مساحة من يرى أن قد وصل إلى الامتلاك الكامل لفعل العمل السياسي، وما قناعة من هذا المستوى، تدل على انكسار في تركيبة المفاهيم والوعي والانغلاق على تعصب يخلق هوة بين العقل والواقع، لأن المسافة في السياسة لا تقاس بكمية التخيل ولكن من خلال إدراك الصورة التي تجسدها شروط وقوانين الاتصال بين الأمة وقادة الفكر. عندما يفرغ الخطاب السياسي من موضوعية الوعي والعمل يصبح وسيلة لزرع الفوضى والتناحر والانقسام وربما يكون قوة تدميرية تنسف الحياة والإنسان، فهو بدلاً من خلق الحقائق المتجاورة في كيان الوعي السياسي، يذهب إلى نقاط التصادم والاختلاف ويسقط الكل في مربع الإفلاس، غير أن أخطر ما يخرج منه وهو في هذه الوضعية، تحول النظرة القاصرة إلى عقيدة مطلقة تترفع عن كل أساليب النقد وطرح الرأي المغاير. حيث يعلو الصوت الواحد حتى يصبح قداسة لا يجوز الخروج عن تعاليمها. وتلك وضعية لا تقف عند حدود انتماء سياسي معين أو حزب وعقائد، فهي حالات متعددة ولكنها في عمقها تصب في مصب واحد هو عبادة الفرد والفكر المرتبط به، وكلما تصاعدت هذه العملية في مسارها الساعي إلى نبذ الغير تنوعت حلقات التصادم وأصبح الانفجار الاحتمال الأقرب في تسارع حركة الضغط السياسي الذي ينحو إلى الأفق المظلم، وهنا تصبح كل القوى السياسية المتصارعة دون خاطب سياسي وبديل عنه استعرض مراكز القوة من عسكرية ومناطقية وقبلية ومذهبية، وحينها يدخل البلد في دائرة المراهنة على أية تلك الأطراف من يحسم الوضع حتى لو كان التدمير للوطن هو الخلاصة النهائية من تصارع الأفراد والحفاظ على مصالحهم. إن الخطاب السياسي المستند على تلك الخلفيات، إما أن يكون خدعة الغرض منها التلاعب بالوقت كمسافة تعيد ترتيب كراسي اللعبة عبر نقلها من مربع إلى آخر، أو التمهيد والاستعداد للإقدام على ضربة تعيد ما فقد من الهيبة والحضور وإعادة الإمساك بمقاليد تحركات العمل السياسي، وهذا ما يدخل حالة التغيير المطلوب طرحها في أزمة الترنح وعدم القدرة على الوقوف فوق أرض صلبة لأن التصدع يكون قد ضرب القشرة من الداخل فانتج تخلخلاً ينذر بانهيار كامل لمن يسعى للخروج عن هذا المفروض. وكلما طالت فترات الركون في إشكالية هذا المأزق تتوالى عوامل الانفجار في التسارع، لأن الأمور لم تصل غلى درجة الحلول والمخارج بل ذهبت بها إلى فقدان التوازن والتعلق بحبل من الضبابية، وهنا يعجز الفكر في تلك اللحظات مهما أبان من مقدرة إلى إخراج المجتمع من دمار قادم إليه، لأن لغة التحاور تكون قد قتلها التعنت الذاتي وتغليب المصالح وطغيان وهم امتلاك الحق المطلق في قيادة الأمور. حالة عجز يعاني منها مجتمع في أمور مثل هذه، تكشف عن غياب لوعي دور السياسة كفن له أصول وقواعد في قيادة العامة، فالسياسة هي إدارة لا تصنع في حالة انفجار الأزمة، بل هي من يسبق وضع مثل هذا ويضع له حدوداً لا يمكن تجاوزها فالأزمة هي من يسقط المشروع السياسي، والأخطر من هذا، عندما تطرح نفسها كمشروع هو الحل الوحيد حينها يعلو خطابها المجنون الذي قد تراه العامة الشجاعة الكبرى لأخذ الحقوق، وما هذا إلا بداية الدخول في دوامة انتحار المجتمعات، فخطاب الدفع إلى الأمام دون بصيرة يحرق الرؤية ويحل بدلاً من النور الدخان الأسود مما يفرض طريق الخلاص بالرماد والجمر، فتعلو لغة الحرب والسلاح وفي هذا يكون الصعود إلى الهاوية، وعندما يتناثر الخطاب السياسي مثل شظايا القنبلة لانسمع غير أنين الوجع ولا نشم سوى رائحة الدم، والخلاف في السياسة إن تقطعت عروقه، لا يطلب إلا المزيد من قرابين الضحايا. عندما تعجز الأمم عن وضع خطابها السياسي، تعجز عن الحفاظ على ذاتها ومن هنا كل شيء لديها يصبح دون القيمة الإنسانية، فهي قد تجد في الدمار عملية إعادة لخلق كيانها من جديد وتغفل أن الحروب لا تترك غير الوجع والحرمان وأجساد تمزقت أعضاؤها فلا هي في تقويم الإنسان ولا دونية الحيوان، والتوحش عندما يسيطر على الذات البشرية لا يحده حد في قدرة التدمير، وحين يكون هذا هو معنى الحياة فأية قيمة للضمائر..؟؟ قد تفقد التجارب حاسية التعلم منها في بعض منعطفات التاريخ غير أن الانتباه من شرر الاحتراق يجب إدراكه قبل أن يتصاعد اللهب وتصبح الجمرة بركاناً، والشعوب التي لا تقرأ أوجاعها هي من تعيد سلخ جلدها وكسر عظمها، وحفر قبور أولادها، وكأن التاريخ موكب جنائزي يردم المراحل بتراب القبور، والمسافة بين الحياة والموت عند الأمم، هي الوعي والإدراك، وما الخطاب السياسي سوى حالة قد يكون قنبلة في يد، أو تفكير في العقل وما بين الطرف الأول والثاني تحدد مسافات الوصول أو متاهات الضياع. رابط المقال على الفيس بوك