كثيراً ما يصعب عليك إخراج المشهد من اعتياده، من صورته المكررة، من ملامحه التي تعرفها بتفاصيلها.. لا شيء يبدو مختلفاً، أو مفتعلاً، ولا شيء يبدو خارج الإطار الذي غرقت في المرور عليه ومشاهدته، إنها الثقافة المنافقة التي يقول أحدهم: إنها ظلت تشكل استمرارية الحدث، ومحور النص، ومفردات الحياة اليومية التي لا يمكن التجرؤ والقفز عليها.. الثقافة المنافقة لا تخلو من طرافة الاستعراض كلما جد حدث, وكلما اتسعت دائرة الحقيقة.. لا شيء يبدو أكثر وضوحاً من الاستعراض، والنواح، والصراخ والتجمهر، والمظاهرات، وافتعال الغضب للحظة على اعتبار أنه من أهم عناصر الوصول إلى الآخر، وكسر المسافة.. نحن هنا في كل حدث نتراكض، نتواجد لنمارس حقنا في الانفعال، وطرح الرأي من كل المنابر المسموعة والمقروءة والمتحركة.. قادرون على تفكيك الزمن، وشل حركة المكان، واستنطاق الصامت بفعل مرتبط بالتحرر من الخوف، وتحريك النقطة الساكنة.. نحن قادرون على إخراج الغضب، والشتم، والتنديد، والشجب والاستنكار، كل فيما يخصه وما يمتلكه، وما في مقدوره.. ليس لنا علاقة بالتحاور أو الجدل، فهذه مفردات ينبغي أن تظل أسيرة الهامش.. على ذكر الهامش لماذا لا نجرب كما يقال ثقافة الهامش، وزاوية الرؤية من الهامش, بعد أن مللنا الثقافة المنافقة؟ قد يعترض البعض على ذلك على اعتبار أن الثقافة المنافقة جزء من الهم العربي، وتشكيل كامل من الخصوصية المشتركة بين شعوبه، وهي قادرة على استيعاب كل ما تريد أن تقوله في لحظة الغضب، وبإمكاننا التكيف معها لأنها لا تصر على مسافة مفتوحة، كما أن من ملامح روعتها تفهمها للدور العاجز الذي يشعر به كل من يمارسها دون إحساس بمحدودية هذا الدور، بل على العكس قد تساهم في تضخيم هذا العجز وتجعله الأفق الوحيد الذي من الممكن أن تصل إليه وتتصادم دون الشعور بمأزق العجز.. الثقافة المنافقة ثقافة محورية، وحقيقة لا علاقة لها بالوعي سوى الغائب منه! وليست مسئولة عن الزمن أو تحوله، أو كينونته، أو حتى التحاور معه، أو الصراع والمناوشة، وليس له علاقة بالحرية الفردية، أو الجماعية، أو المطالب بها، أو المكتسبة التي تستحق أن تمنح أو يتم البحث عنها.. لا علاقة لها بالمتغيرات السريعة والبطيئة، أو حتى عوامل التوقف والانطلاق.. هي فعل يهيمن على الفرد للحظة يصبح هو الهاجس، والسطوة، والتحرر، والحرية المفقودة، والوعي الذي لابد أن يحضر، والهوية التي تحتاج إلى ترميم، والإرادة التي دمرها الماضي والحاضر، والواقع الذي من أجل أن تتقبله لابد أن يمر عبر الآخر، ويصبح الفعل تكريساً للثقافة الاستهلاكية التي تتضح معالمها ثم تغيب وأنت تعرف ذلك، لأن فعلك هذا لن يرتبط بالغد، أو واقع البناء الخاص، أو حقك في التجربة، بل ظل صورة للمشهد الذي سبق وأن أديته عدة مرات!!