لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    نقابة الصحفيين تدعو إلى سرعة إطلاق الصحفي المياحي وتحمل المليشيا مسؤولية حياته    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    السوبرمان اليهودي الذي ينقذ البشرية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جماليات المكان في شعر حسن الشرفي
(دراسة في التفاعل النصي)
نشر في الجمهورية يوم 17 - 09 - 2010

(2-1) جدلية التفاعل النصي مع المدينة
تعد المدينة في الشعر العربي المعاصر من أهم الإضاءات التي تلفت أبصار الشعراء، حيث تتأثر بلونها السياسي والفكري والاجتماعي والاقتصادي، وتنفتح على معطياتها أو ثنائياتها التضادية، وتسجل إزاءها -بتكنيك إبداعي- مواقف متعددة قد تتناقض أحياناً حسب الظرف، أياً كان نوعه سياسياً أو اجتماعياً أو فكرياً أو سواها.
وبما أن المدينة مركزٌ هامٌ للتفاعل ومجاذبة الجدة والحديث، إلا أنها في عرف كثير من الشعراء سيئة الصورة، بسبب ارتفاع صوت القهر السياسي والبؤس الاجتماعي، وحدة الصراع من أجل النفوذ وإثبات الهوية للجماعة أو القبيلة أو الحزب أو الفكر، ليكون له -أو لها- القول الفصل في المدينة. ومن هنا، بلور الشاعر المعاصر موقفه السلبي من المدينة، من خلال تشخيص الحالة وانتقاد ما يلفها من مظاهر، قد يكون في الغالب غير قادرٍ على استيعابها أو مسايرة نواتجها التي لا تتواءم مع مبادئ شاعريته؛ وعليه ف«المدينة مكان أساس في تجربة الإنسان، وعنصر تكويني شمولي، تجسد رؤية الشاعر فنياً وتاريخياً، إلى ذاته الكلية في العالم، ويحيل بما يكتنزه من أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية وأيديولوجية، على مختلف الأمكنة والقضايا الأخرى”.
وتبرز صورة المدينة في تجربة الشاعر حسن الشرفي عصية على ثبات الحال، حيث بدت في تنازع جدلي يفصح عن حيرة ذات الشاعر من المدينة، فهو يتفاعل مع معطيات المدينة بالرأفة مرة، وبالنقمة أخرى، وإن كانت النقمة هي الأبرز حضوراً، ولا غرو، فالشاعر الشرفي هو ابن مربعه الأول (الريف) الذي اندمج مع ذكرياته وجمالياته، كما أسلفنا، إضافة إلى أنه شاعر دخيل على المدينة (صنعاء)، فلم يستقر بها إلا في وقت متأخر من عمره، فعلق بها حباً صادقاً، وتعارض معها موقفاً، أياً كان نوعه؛ وما تعارضه إلا دفاعاً عن كرامة الإنسان وبراءته وحقوقه المفقودة في زحام المدينة، الذي استقطع حيزاً كبيراً من سمت الشاعر.
ولم يقتصر تفاعل الشاعر نصياً على مدينة صنعاء فحسب، بل استنطق كثيراً من المدن، اليمنية والعربية والأجنبية، لكن الدراسة ستقف على مُربَّعٍ واحد -بالدرجة الأساس- وهو مربع التفاعل الجدلي مع مدينة (صنعاء)، وذلك أنه يشكل ملمحاً بارزاً ولافتاً في منجز الشاعر.
كما أن المدينة “صنعاء” قد مثلَّت فضاء مكانياً لنصوص عديدة في تجربة الشاعر، بل إنها تحتل المرتبة الأولى مكانياً من حيث الاستدعاء، محلياً وعربياً، حيث بلغ عدد استدعائها أكثر من مائتي مرة.
والموقف الجدلي من المدينة هو عنصر بارز في الشعر العربي المعاصر، والمقصود به “ذلك الصراع الذي تولد في هذا الموقف الجديد بين النقمة على المدينة والتعاطف معها، فقد وجد الشاعر في رؤيته الجديدة أنه يستطيع أن يتعاطف معها بمقدار حنقه عليها”.
ومن هنا أصبحت المدينة في قاموس الشاعر موطناً يحتضن الشيء وضده، ومن الصعب انسياق حسه الشاعري وتوجهه النفسي والشعوري نحو دلالات بعينها، وعلى حساب دلالات أخرى لها القدرة على المنافسة. وهذا ما يترجمه الشاعر في أكثر من تفاعل نصي مع مدينة “صنعاء”. ففي قصيدة “دم الحرف” يقول:
لأن دمي ما عاد في حبها يكفي
فتحت ُ شرايين الهوى لدم الحرفِ
وجئتُ بها “صنعاء” أخرى كأنها
بقبضة موار اللظى شفرة السيفِ
مشارفها بوحُ الفصول سخيةً
فماشئت من كمٍّ وما شئت من كيفِ
و«صنعاء» من أسخى المواسم غيمةً
لها ما تشهت من ربيع ومن صيفِ.
يتضح من هذا المقطع الشعري أن الشاعر يتفانى روحاً ودماً وحرفاً في حب صنعاء. ومن رحم هذا الحب لم تعد صنعاء مكاناً ذا أبعاد هندسية، بل هي صنعاء أخرى، تجتاز مسارات التحديد، وتستجيب لها المواسم. وهذا التفتح الخيالي يلف بنا حول شاعرية المكان الأليف الذي تمازج معه الشاعر، كما أبانت عنه الدراسة سابقاً، ويجعل من شعرية المدينة امتداداً “لشعرية المكان، هذا المكان الذي يشكله الخيال ويبنيه في اللغة على نحو يتجاوز حدود الواقع الفعلي”.
إن تواصل الشرفي في تفاعله الموجب مع المدينة “صنعاء”/ المكان، يعود إلى الأثر النفسي والوجداني، أو يعود إلى الموقف الباعث لشكل التفاعل. ففي قصيدة “صنعاء” التي نجتزئ منها:
صنعاء يا تسبيحة الضوء يا
كل بشارات الهوى والشبابْ
أنا على بابك إن تأذني
ملكت جناتِ اليقين الرحاب.
يمكن مساومة قصدية النص وفقاً لمعرفة وقت ولادته، الذي يعود إلى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، والشاعر -حينها- لا يزال يراود ولوج مدينة صنعاء، ونفسيته التواقة هي المحرك لخيال الإبداع، خصوصاً والشاعر لم يخض من قبل تجربة معايشة المدينة، لكن هذه النفثات الإبداعية الإيجابية تتبدل مباشرة عند عبور سور المدينة، وحينئذٍ يذوب استجداء فتح أبوابها، إذ يقول في نص آخر، هو “سور المدينة”:
لا شيء يقرِئُك السلاما
لا شيء في الحلزونة الصفراء
يسأل عنك
فاختزل الكلاما
هي ذي بنات القلب
يا سور المدينة
في مهاجلها اليتامى
من أين يا سور المدينة
تؤكل “الكدم” التي
جاءت بهمك
يوم عِمْتَ به ظلاما؟.
بل إن الموقف يتصاعد إلى درجة أن الشاعر يستثني ما قاله في المدينة هوىً، إذ يقول:
اسحب كلامك، ليس للمأثور مما قلته شيءٌ سوى
صمتِ المدينة، والمدينةُ خارج الصوتِ المعافى،
والمدينة خارجَ المرمى، وأنت فريد شأنكَ بين ضوضاء
الجهاتِ الأربع الصماءِ، أنت وحيد عصركْ.
هكذا تبدو المدينة خارج المنطق الأول الذي آمن به الشاعر. فهي -نصياً- غير متلائمة مع ظروف الإنسان أو منافعه الاجتماعية والفكرية؛ ولذا عافتها الذات الشاعرة، وأبعدتها إلى عالم لا يحده زمان أو مكان«خارج الصوت المعافى، خارج المرمى».
ويتطور موقف الشاعر الجدلي من المدينة، ليصل -أحياناً- إلى اتخاذ الشيء وضده، في وقت زمني متقارب. ففي عام 1994 وقعت حادثة سلبية في اليمن، انتهت بحرب الانفصال وانتصار الوحدة، فإذا بالشاعر يتخذ من صنعاء “فاتحة الكتاب”، وهو تصوير موجب، إذ يقول:
لقلبك في “عدنٍ” آيتان
وللبحر في “شبوةٍ” آيتان
ولكن “صنعاء” تبقى
هي الفاتحة.
فصنعاء في النص قدسية بقداسة “الفاتحة”/ أم الكتاب، وهي صورة لا تعكس إلا شعوراً عرفانياً تعيشه الذات المبدعة، بعيداً عن التوتر والقلق الذي قد تنتجه ثقافة المدينة، السياسية والاجتماعية والاقتصاية. لكن هذا الشعور الروحي المُطْمَئن تجاه صنعاء/ المدينة، تتحول وجهته المقدسة إلى النقيض، فتبدو في هيئة يكتنفها الشر كله، فهي ألعوبة في كف عفريت، وقبيحة تشبه الصومال، في قصيدة كاملة تتكون من ثلاثة أبيات شعرية قيلت في زمن متقارب من زمن النص السابق، إذ يقول في قصيدة “الثالوث”:
“صنعاء” أمْ برميل كبريتِ
ألمحهُ في كف عفريتِ؟
أم أنها الصومال ُ في قبحها؟
أم أنها أحزان “بيروت”؟
أقول للثالوث منها لقد
أصبحتَ فيها سيئ الصيت.
يتضح من تحول رؤية الشاعر أن الموقف السياسي هو الذي أشعل فتيل النص الإبداعي، وساقه إلى التفاعل السلبي مع المدينة (صنعاء)، بخلاف وجهته السابقة، أي أنه يتناغم معها مرة ويتنافر أخرى، فالحدث استدعى مدناً عاشت التجربة ذاتها، ومنها الصومال التي لا تزال -حتى اليوم- ترزح تحت حمم الحرب الأهلية. وفي السياق ذاته يجب ألا ننسى أن العامل السياسي كان من أقوى الدوافع التي حركت شاعرية الرومانسيين، ودفعتهم للفرار من المدينة والاحتماء بالطبيعة البريئة. كما أن “تجربة الشاعر السياسية غالباً ما تتكثف وتترمز في المدينة، لأنها مكان وقيده، وشاهد هوانه، وهذا ما يجعل تحليل الحرية السياسية الشعرية عميق الارتباط بمشكلة المدينة”(36).
إن التباين الواضح في رؤية النصين السابقين يعكس نفسية ممزقة حيال مدينة “صنعاء”، لاسيما في مثل هذه الأجواء الساخنة..قد تتسع دائرة الموقف الجدلي من المدينة (صنعاء) في تجربة الشاعر الشرفي، لتصل ذروتها إلى الانشطار داخل سياق النص الشعري الواحد، فنلاحظ الحب والكره معاً، والمدح والذم، والموجب والسالب بشكل عام. ففي قصيدة “قصائد السفر” يتصالح الشاعر مع “صنعاء”، ويختلق مبرراً في وجه ما يدور على صفحتها، إذ يقول:
حين أعود إلى ضفائرها القروية تكون “صنعاء”
خارج رئتي لأتنفس بريشة عشية لها نكهة
القرفة وطعم الرحيق، حين أعود إلى مناديلها
مضمخة بالعنبر تكون “صنعاء” بعيداً عن
فوانيس الكاذي وقناديل الطل وفي التفاتة
وداع لصنعاء من قبالة “جبل ضين”
أقول لها: لا عليك أيتها الجميلة من سحب
الدخان الكثيف المتصاعد من أكوام العفن! إنه
التعويذة الحضارية التي بدونها لن تسلمي من
عيون الحاسدين...(37).
يبدو نصياً أن الشاعر يعود إلى الفضاء الأول لمدينة صنعاء (ضفائرها القروية) ، التي تجسد الصفاء والبراءة، وتتمتع بنكهة فريدة. فهو حينما يستذكرها يرسمها لوحة مثالية، ولكن الالتفات العصري إليها يريه سحب الدخان المتصاعد من عفن الراهن، وكأن الشاعر يعاتبها ضمناً على مغادرة جذورها وقطع امتداد حميميتها بالماضي، مشيراً إلى المضمون الغائب في المثل الشعبي اليمني المشهور: “من خرج من جلده جيف”(38)، أي من ابتعد أو تنكر لأصله أصابه العفن. ومع هذا يفتعل الشاعر مبرراً عجيباً لعفن المدينة المتصاعد، في رمزية مكثفة تعكس كل صراعات المدينة وسلبياتها، وذلك من خلال استحضار طقس شعبي يمارس في اليمن ويقترب من عنصر الخرافة، ويتمثل في إشعال بعض التعويذات كبخور، لتحمي الإنسان والحيوان والمكان من عيون الحاسدين وشرور السحرة ونفثات الشياطين.
ومن اللافت أن النص الماثل هو الوحيد الذي يتنافى مع وجهة الشاعر تجاه قصيدة النثر، إذ يمثل النص في عباءة هذا الجنس الشعري الجديد، ولا نعرف لذلك سبباً، لاسيما والشاعر يصر على موقفه، ويعتبرها حالة استثنائية(39).
إن تصوير الشاعر للفضاء المكاني لمدينة صنعاء، هو انعكاس لعلاقة ذات الشاعر بالمكان “بوصفه فضاءً لتجاذب حضور وغياب صوت الشاعر وارتباطه بالمكان”(40)؛ ولذلك تتصاعد نغمة الموقف الجدلي من المدينة )صنعاء (في نصوص الشاعر الشرفي إلى درجة الغوص في تصوير أدق ما يحدث من تجاذبات مدينية، مصدرها العرف والعادات والتقاليد، التي تُسيِّر أوضاع القبيلة. ففي قصيدة “صنعاء”، نجد الشاعر لم يكتف بجعلها خارطة لحواري صنعاء، وما يلفها من جبال أو وديان، بل جعلها خارطة لبعض الأعراف القبلية التي تمكنت من غزو المدينة وسلب حسها الحضاري ومزاولة فاعليتها التدميرية، وهي رؤية تنبني على الوجه السالب لهذه الأعراف، لتساير الموقف الجدلي الذي يحضر بقوة في تجربة الشاعر الشرفي، فتارة تبدو صنعاء:
“صنعاء” أحلى مفردات النشوة الأولى
فعاقرها منمنمةً وطيفَ زجاجةٍ ونُعاس منديل
يهدهدهُ النسيمُ تعلقت أهدابهُ بجديلتين من الشفقْ
لهواك ما ازدانت بمثل هواك أحضاناً تناوشها
حمام الدور أغنية تسامر لهفة “النهرين”(41).
وتارة أخرى، تبدو مغايرة للجمال والغناء والحرية، فإذا هي محصورة بين خطين، أحدهما ساخن يعكس عبث “المشيخة” بصنعاء، وخط آخر يعتريه الترميز، لكنه في المفترق يؤدي إلى الغرق؛ وكلاهما -معاً- يعكسان ضدية التفاعل، واختزال الناتج السلبي. يقول الشاعر:
“صنعاء” عاصمةٌ على خطين: خطٌ ساخنٌ بيدِ
“المشيخة” لا ترى إلا “فخامتها”، وخط ٌ عند
مختلفِ الغرقْ،
من غيرها انطلقت إليه كما يشاء، لأن “زاملها” بقيمتهِ
تبرمجه ليالي القدر معتمراً
وتغفر ذنب “خُبْرته” لتضمنه بسعر “المنطلق”(42).
فالقارئ بحاجة إلى ترويض الدوال ورمزيتها، وكذلك استدعاء أطرها المعرفية؛ لمجاوزة الغموض والمفارقة المفهومية. ف«المشيخة» رتبة لكبير القبيلة، وتضخمه قد زحف على المدينة، وبصحبة “الزامل”(43)، حيث استطاع أن يطمس وجهها المدني، وأن يخفت صوت الحوار والعقل والعلم؛ ليرتفع صوت “الزامل” المعبر عن رأي الشيخ والقبيلة.
وعلى المستوى ذاته، تعكس الأبيات الشعرية التالية عمق الموقف الجدلي في تجربة الشاعر، في إطار النص الشعري الواحد، إذ يقول:
وتمر قافلةٌ وقافلتان قلْ عشراً وفيها الهودج المعطاء وأقول: يا رب القصيدة إنها “صنعاء” في الأعماق لا عفراء ويطول حبل الصوت في يدها وفي حلقي ويشرق بالغبار الماء.

ما في المدينة ما يدل على اسمها
وكأنها جنيةٌ حدباء(44).
فالبيت الأول يستمطر غيمة “المشيخة” وحجم نفوذها في المدينة. وما تقاطر القافلة والقافلتين إلا إيحاء بذلك. ومع هذا ف«صنعاء» المدينة تزاحم أعماق الشاعر، وفي الآن نفسه هي جنية حدباء.
هكذا لم تبق مقصدية النص على حال، وكأن خيال المبدع مسكون لا صنعاء، وهو مقبول فنياً وموضوعياً؛ لأن تجليات رؤية الشاعر بيد الثنائيات التضادية التي تحكم المدينة.
إن إدراك الأبعاد الدلالية لتوظيف المدينة شعرياً -في تجربة حسن الشرفي- يمكن أن يتحقق أكثر، إذا ما فاوض الدارس مساحة أكبر من النصوص المترابطة في السياق ذاته، وهذا قد يحتاج إلى سعة في الوقت والصفحة. إلا أن من الممكن للدراسة الماثلة أن تخط مساراً حام حوله الشاعر، إن لم يكن قد اقتفاه فعلاً، وذلك يثبت في ملاحقة نظر الشاعر لبارق الحدث الذي يبزغ من سماء المدينة التي تحمل رصيداً جمعياً، فكلما طرأ حدث بمدينة، عربية أو أجنبية، سعى الشاعر للتفاعل معها واستثمار طاقاتها الكامنة تاريخياً. فعلى سبيل المثال: نجد أن مدينة القدس العربية السليبة تأتي في المرتبة الأولى بالنسبة للمدن العربية من حيث التفاعل معها نصياً، فقد بلغ حوالى خمس وأربعين مرة، وتأتي بغداد في المرتبة الثانية بعد القدس، إذ بلغ عدد التفاعل معها حوالى ثماني وثلاثين مرة، ثم مدينة غزة، حوالى سبع عشرة مرة، ثم مدينة بيروت، ثلاث عشرة مرة. ويمكن الوقوف على نموذج واحد عربياً، يتمثل في التفاعل نصياً مع مدينة القدس، إذ يقول الشاعر في قصيدة “هامش على نشرة الأحوال”:
لا أريدُكِ أن تغضبي
في الزمان الذيْ مات فيه الغضبْ
لا أريدكِ أن تعبئي بالنتيجة
أو تأسفيْ للسببْ
المباكي كثارٌ حوائطُها
وأنتِ هنا وأنا من حطام العرب
قُدسنا في المزاد
وأغصان زيتوننا أحرقتها
حقول الذهب
لا أريد الخيار الذي لم يعد لي
فإن شئت كوني الرماد
وإن شئت كوني الحطب
انظري في عبوس المدارات
ثم استديري وقولي لنهر التعبْ:
ها أنا مهرةٌ ليس لي من دمي غير دمعي
وحوليْ أبو لهب
وجدار اللهب(45).
يستحضر الشاعر مدينة القدس المشبعة بالرؤى والرموز، لما تمثله في وجدان الإنسان المسلم، فهي “لم تكن يوماً مجرد مدينة مكانية من حجر وطين وتجارة وسياسة؛ لقد كانت دوماً مدينة الحلم والتوق وتطلع النفس البشرية إلى الله”(46). هذه المدينة/ الحلم، أصبحت اليوم سلعةً تباع في المزاد، لا مشيئة لها، سوى الخيرة بين أن تكون رماداً أو حطباً. وقد حرص الشاعر على أن تكون دوال النص على تواصل قصدي يعكس فظاعة المأساة التي تعيشها القدس من جهة، وتقاعس الأمة العربية وتعرية عجزها من جهة ثانية، فالقدس أسف، وبكاء، وحريق، ودماء، ورماد... وحال الأمة العربية قد لا يبتعد عنها كثيراً (حطام، ودموع، ولا خيار...)، وكلها دوال تتوازى دلالياً. ويمكن تبيان ذلك بالشكل التالي، في ظل علاقة السبب بالنتيجة، كما شاء لها الشاعر في النص.
السبب النتيجة
العرب القدس
موت الغضب غضب
دموع دم
حقل الذهب النفط
حريق رماد
أبو لهب اللهب
حطام لا خيار
يعكس الشكل الماثل تدرج الفعل المفضي إلى رمادية مدينة القدس في سياق الوعي الكامل بين السبب والنتيجة موضوعاً، والتحالف بين الدوال فنياً، لإنتاج مرارة القصدية الحاكمة، وتحديد زمن الفجيعة، وسحق أثر ملامسة العزيمة والنخوة وما شابه ذلك.
وعلى مقربة من الوحي ذاته، يسوقنا الشرفي الشاعر إلى مدن: غزة، أريحا، قانا، حيفا، بيروت، وأخيراً إلى بغداد. الذاكرة العربية، وحادثة النزيف. واستنطاق هذا التداول يرصف بدهياً المسار الذي خطه الباحث في لوحة التفاعل النصي مع المدينة، وهو التفاعل بالسالب -غالباً- مع المدينة، والانسياب وراء الحدث بمختلف صوره، وهي رغبة -في ما يبدو- تكاد تتحد مع غيره من الشعراء المعاصرين العرب؛ وليس دخان العهر، والفساد، والقهر السياسي، والإقصاء، التي أثارها السياب ونزار قباني والبياتي وأمل دنقل والمقالح، وسواهم، عن ذلك ببعيد، وما نفثهم إلا استجداء التطهير.

الهوامش:
(36) المدينة في الشعر العربي المعاصر: د. مختار أبو غالي، عالم المعرفة، الكويت ع196، أبريل 1995، ص199.
(37) المجلد الرابع، ص 252.
(38) الأمثال اليمانية: إسماعيل بن علي الأكوع، ج 2، ص1206.
(39) أكد لنا ذلك الشاعر في تواصل معه، ونثبته هنا حتى لا يظن القارئ أن الشاعر قد عَدَل عن موقفه.
(40) غواية النص، وقراءة اللعب (دراسة لاستراتيجية الغياب في شعر سعدي يوسف)، سيد عبدالله، المجلس الأعلى
للثقافة، القاهرة، 2005، ص234.
(41) المجلد الرابع، ص284.
(42) نفسه، ص288، 289.
(43) الزامل هو: “نوع من الشعر الشعبي الغنائي اليمني عرف منذ القديم، بل منذ افتتن الإنسان اليمني بالحروب والفتن القبلية التي كانت تنشب خاصة بين القبائل، وكانت القبيلة في زاملها تظهر أمجادها ومفاخرها”. في التراث الشعبي اليمني: حسين سالم باصديق، ص249.
(44) الأعمال الكاملة، المجلد السادس، ص16.
(45) المجلد الأول، ص220.
(46) الرحلة الثامنة، دراسات نقدية: جبرا إبراهيم جبرا، دار ثابت، 1984، “بلا مكان”، ص115.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.