أصبح للمعرفة منزلتها الكبرى بين الأمم الساعية إلى مكانة أرقى في قيادة الحضارة. فالمعرفة في عالم اليوم هي من يحدد اتجاهات القوة الاقتصادية والسياسية، كذلك هي الانفراد التاريخي الذي من خلاله يتم تقسيم العالم مابين أمم تكون في مكانة القيادة، وأخرى عند درجات القيادة، وأخرى عند درجات العجز والضعف، وأول درجات التسيد المعرفي طريقة التعليم في المدارس منذ المرحلة الأولى حتى يصل عقل الفرد إلى العلم الجامعي ليكون العقل هو الثروة الأهم التي يمتلكها المجتمع. فالتعليم لا يعني ابتلاع العقل أكبر كمية من لغة الحشو والتي لا تعود إليه إلا بحالة من الانتفاخ وكأنه الورم السرطاني الممتص لمقدرة الفكر على إعادة إنتاج المعرفة بشكل أرقى، تلك هي خاصية التعليم عند الشعوب التي تعاملت مع المعرفة من مستويات الإدراك والوعي أما أن يتحول التعليم في المدارس إلى حالة مسخ للعقول وإدخالها إلى حلقات الدوران في الدائرة المغلقة، تكون البداية من عند نقطة الصفر والنهاية بالرجوع إلى نفس النقطة. وتلك تصورات في النظرة من منطلق، أن المعرفة لا يصل إليها الفرد عبر الحشود والإفراغ، بل التعليم هو الأساس الأهم في قيادة الشعوب، فالأمة التي عرفت تختار أي مناهج المعرفة تقدم لأجيالها منذ الصغر قد أدركت إلى أي طريق يذهب بها المستقبل. فالمعلوم والمعارف الإنسانية المتجددة في مختلف المجالات لا تقدمها غير أمة عرفت ماذا تتعلم، وماذا تقرأ وكيف تنزل الكتاب منزلة هامة في حياتها، فالمدرسة عند تلك الأمم، ليست مساحات يحشر بها الطلاب وجدراناً تفصل بينهم، ولكنها الخطوات الأولى الممهدة إلى صنع قيادات جديدة للغد، وأمة أدركت ماذا يعني لها صنع قادة الغد لا تخاف على مكانتها من التراجع، فاليوم يصنع الآتي عبر هذه العقول التي تتلقى أوليات المعرفة عبر طرق العلم الحديث. عندما تعجز الأمة عن الوصول إلى تحقيق غايتها في المعرفة تصبح خارج مسار التاريخ لأنها لا تمتلك المشروع السياسي والمشروع الاقتصادي هي في منغلق خطير بل هي في أعجز مراحلها حيث تدخل في مسار الدول الباحثة عن المساعدات والدعم وتظل على هذه الحالة حتى تفتقد كامل قدراتها في إخراج حالها من هذه المستويات من التدني والانهيار التام، الذي يعمل على تفشي كل أنواع العلل والأوجاع في جسدها. والأخطر من كل هذا، تصبح الدول صاحبة المعارف غير محترمة لدول العجز، لأنها تحت مستوى التاريخ وكل ما يحل بها من خراب هو ثمن جهلها، وموت نور العلم فيها، أما شعوب هذه الدول، فينظر إليها مثل نظرة العملاق للقزم، فهي أن امتلكت الثروات عاجزة عن استخراجها لأن ذلك يتطلب معدات وتقنية علمية تتطور كل يوم حسب طلب الأسواق الاقتصادية والسياسية، وإن سعت هذه الشعوب لشراء بعض الحاجات عليها الاستعانة بخبراء الدول المتقدمة، وهذا يقوم على انفاق مزيد من المال، وكل هذا يقودها نحو الإفقار المتسارع بحيث يتحول اقتصادها الفقير إلى تراكم الكثير من الديوان وامتصاص كل قطرة دم من أجساد شعوبها التي وقعت في هذا الموت الجماعي، وذلك ما يعزز سطوة الجهل عليها، ومن هنا يأتي عدم الاهتمام بالتعليم والتعامل معه وكأنه حاجة غير ضرورية في الحياة. وأمة يسقط في نظرها التعليم إلى هذا الوضع، تكون قد حكمت على نفسها بالعبودية لغيرها من الأمم لأنها قد دخلت في مجالات البحث عن المساعدات، وكلما طالت بها الأيام يزداد عجزها، وهذا المرض يصبح بعد فترات الحقيقة المطلقة التي من الصعب تجاوزها، لأن ما تقدمه الدول المتطورة لا يعد إلا مجرد قطرات من المساعدات تعمل على تحريك هذا الجسم المشلول ولكنها لا تخرجه من غرفة الإنعاش فهي في حالة موت سريري لعقود قادمة، لذلك نجد عند الأمم التي غابت عنها أنوار المعارف تصاعد في الانقسامات والصراعات والتناحر الداخلي وكأنها استعاضت عن العلم بهذا الكم الهائل من الخراب، ومن هنا نجد أن شعوب الجهل تجعل للبندقية مكانة أفضل من الكتاب وجمع السلاح في المخازن أهم من التوسع في عدد المدارس، وإعداد القتلة أهم من تأهيل المدرسين. وكلما تصاعدت حدة الصراعات فيها تغيب أنوار المعرفة عنها ويصبح الظلام هو من يتحكم فيها، وما على الكل سوى السير في هذا النفق المظلم. فهذا اللون الأسود الذي يغلف العقول ويحجب عنها نور الحقيقة يتحول مع الزمن إلى قداسة يجب الدفاع عنها، وعدم السماح لأية محاولة لكسر هذا الصنم، حتى تظل وحدانية الظلام هي من يسود الوضع وكلما طال هذا الحال أنتجت كائنات الظلام مشاريعها وشدت قبضتها الحديدية على رقاب الأمة، فالجهل لا يوجد غير العمى وتكسيح الشعب وطالما ظلت الأمة في جهلها تتساقط عليها العواقب من كل اتجاه، وكل هزة تمر بها تفقد فيها خصائص حضورها بين الأمم المتقدمة، حتى يأتي وقت ينظر إليها من باب، شعوب لا تمتلك المعرفة لا تستحق الحياة، لذلك لا تحمل أخبار موت أفراد أو جماعات هذه الشعوب أهمية في العالم المتقدم، لأن النظرة إليها غالباً ما تكون دونية ولا ترتقي إلى مستوى الإنسانية، والإنسانية في عالم اليوم أصبحت تقاس عبر الإنتاج المعرفي وقيمة العقل. من هنا تحول العلم في الحياة إلى قوة كبرى تتسابق الشعوب على أخذ المزيد منها، ولا تقف رغبة المعرفة عند حد معين، فهي مدى مفتوح على أوسع الأبواب وكلما أخذ الفرد كمية من المعارف طالب بالمزيد وكلما ارتقى الفرد، صار حال المجتمع في وضعية أفضل، فالتعليم عند تلك الأمم هو من يصنع لها مقدرتها على التحدي والدخول في مراهنات استحقاق القدرة على القيادة، لأن العالم في الراهن لا يقبل بعقليات جاهلة تتحكم بمصيره ولا تدرك ما تذهب إليه من مذاهب الفشل والتراجع. فالعقليات الفاشلة هي من يختار عالم الظلام كي تمارس فيه طقوسها الشيطانية من خراب ودمار وإحراق حتى تظل المقدس المتحكم بمصائر الغير، وكلما زاد جهل وتخلف الأمة توسعت هي في مص مزيد من دماء العامة الجاهلة التي لا تعرف حقيقة من يتحكم في حالها. إن المعرفة في الزمن الحاضر هي من يجنب الشعوب عدة أمراض نفسية وجسدية وغيرها أصبحت تعصف بعالم اليوم، وما نشاهده في الفضائيات وما تعاني منه بعض الأمم من تمزق وحروب وجوع وفقدان لكل وسائل الاستقرار، حتى تحولت إلى أشباح تقودها عظام هشة، فلا يعرف العالم عنها غير إحصائيات في عدد الأموات الذين يتساقطون كل يوم أكثر مما يقتل من الحيوانات التي تتصارع في الغابة. لقد دخلت المعرفة اليوم في قوائم الأعمال التجارية فهذا المعامل التي تعمل على إدخال الجديد في الصناعات لا يمكن لها أن تتقدم خطوة واحدة إلا بعقول تم صناعتها منذ مراحل الدراسة الأولى في المدارس، فالتعليم الذي لا يقود إلى المعرفة، هو مثل الجهل الذي يزيد صاحبه الكثير من تراكم التخلف والإفقار، وكلما أصبح للأمة حاجز من الجهل اتسعت مساحات ضياعها وتفرقت بين الأمم فهي لا تملك من يومها أكثر مما فقد في أمسها، أما الغد هو ذلك المفقود الغائب عن أقصر حدود الرؤية حتى وإن كانت تحت الأقدام، لذلك ما يطلبه عالم اليوم منا فهو وضع المعرفة في أوليات حياتنا حتى نقدر على مواجهة تحديات التاريخ، وإلا كانت الصراعات هي من يقودنا نحو الضياع. رابط المقال على الفيس بوك