في جامعة تعز شباب تزدحم أذهانهم بأفكار وابتكارات ومشاريع طموحة تنبئ عن عقليات نظيفة قادرة على إنجاز شيء ما لو أتيح لها المجال. المتخرّجون من كلية الهندسة في هذا العام قدّموا مشروعات تخرج جديرة بأن تُحترم؛ لأنها تصرُّ على الإبداع في زمن العمى، بل إنها تُخجل النُخب السياسية في بلد لم يقدّم نفطه ولا ذهبه ولا ثرواته شيئًا للبحث العلمي.. إنه بلد تعودت حكوماته المتعاقبة أن تنفق على صفقات السيارات للمسؤولين سنويًا، وتقترض الأموال وتتلقّى المنح، وما فكّرت يومًا أن تنشئ مركزًا علميًا للأبحاث وتنمية الاختراعات يستقطب العقول الشبابية المبتكرة ويمنحها كل الرعاية والاهتمام من أجل تحويل ما لديها من أفكار إلى مشروعات قائمة تسهم في إنهاض الوطن وتنميته. حتى مؤسستنا العسكرية تعوّدت على أن تبدّد الميزانيات الضخمة على شكل رواتب ونفقات يذهب جزء كبير منها أدراج الرياح/ الفساد، وما جرّبت أن تؤهّل نفسها وتطوّر إمكانياتها بإنشاء مشاريعها الصناعية التي يمكن أن تنافس بها اقتصاديًا، على الأقل أسوةً بما قامت به بعض المؤسسات العسكرية الشقيقة. كل المشاريع التقنية في العالم بدأت متواضعة ثم نمت وتطوّرت ووجدت من يتعهدها بالرعاية إلى أن أصبحت رائدة وذات بعد عالمي منافس، والذين ارتادوا الفضاء وأوجدوا هذه الطفرة التكنولوجية الباهرة فعلوا ذلك ليس لأنهم أكثر ذكاءً؛ ولكنهم لأنهم أكثر جدية وأكثر صدقًا مع أوطانهم، وما أوجدوا اليوم مساحة للحديث والكلام غير المنتج (الفيسبوك/ التويتر) إلا بعد أن تشبّعوا بالإنجازات العليمة التي قادوا ولايزالون يقودون بها العالم؛ لكننا لم نفهم أنهم اليوم يحرقون السلم الذي صعدوا عليه بإشغال الإنسان العربي بالكلام ومشاهدة إنجازاتهم بوسائل الإعلام التي يصطنعونها والكهرباء التي ابتكروها، وكذا بعدساتهم ونظاراتهم التي نشاهد بها ونحن قاعدون على كنباتهم التي جهّزوها وفي الأجواء المكيفة التي أوجدوها؛ بل نحن نرتدي مما يصنعون، ونأكل مما يزرعون..!!. المهم تخيّلوا اليوم أية قيمة يكتسبها حديث بعض الطلاب في هندسة جامعة تعز عن اختراعهم عدة نماذج لطائرة دون طيار، وطالب آخر يتوصل إلى إمكانية تحويل البلاستيك إلى وقود، وثالث يبتكر نظّارة إلكترونية للعميان، ورابع يبتكر شاشة اللمس المتعدّد التفاعلية، وخامس يبتكر نظام البصمة الانتخابية، وغير ذلك من المشاريع المفصحة عن قدرات فنية علمية قد تحقّق القفزات النوعية إذا ما أتيحت لها الفرصة. لكن في المقابل تخيّلوا حجم الكارثة أن يكون حظ هذه العقول النشطة أن تولد في بلد لا يلتفت إلى مجال تنمية العقول الصناعية وإيجاد المعامل والمراكز اللازمة لذلك؛ في بلد كهذا تولد العقول لتموت، وتوجد الأفكار لتضمحل وتُقمع، ومع الإهمال وربما الإيذاء والقمع لا تستغربوا أن تتحوّل القدرات العقلية الخارقة وحدّة الذكاء عند البعض إلى جنون وهلوسات، ثم تأتي الثقافة الشعبية لتقول: إن فلانًا (قرح فيوز) لأن (عقله أكبر من رأسه) كما قيل قديمًا عن الأديب والمترجم عبدالله بن المقفع. وفي ظل وجود “مافيا الفساد” المتوغلة في كل مفصل من مفاصل الدولة؛ لا تستغربوا ولا يستغرب كل شاب في رأسه مشروع تقني أن يواجه بالعراقيل وربما بالتهم وترويج الأكاذيب وسرقة المشروع أو تمييعه، وأنا أقول لكم: إن غول الفساد والعقول الصدئة لا تسمح بإحداث الطفرات التي قد تتسبّب بتقليص حجم منهوباتها من المال العام، فمثلاً ستجد مافيا التقنية والتكنولوجيا تقول: إن تطوير مشاريع الطائرات دون طيار خطر على أمننا القومي!!.. وستجد مافيا النفط والمعادن تقول عن تطوير مشروع تدوير البلاستيك واستخراج النفط منه: إن هذا النفط قاتل خطير للبيئة وأخطر من النفط الطبيعي بمقدار مليون ضعف، وأنه نفط يهدّد بتجفيف البلاد من المواد البلاستيكية التي لا يمكن للإنسان اليمني أن يستغني عن استخدامها!!. وفيما لو جرى تطوير صناعة النظارات الإلكترونية للعميان ستجد مافيا الصحة والصيدلة تقول: إن هذه النظرات قد تسبّب للعميان الأمراض السرطانية القاتلة، ولا شيء أفضل للعميان من البقاء هكذا دون تركيب شيء يثقل وجوههم..!!. وهكذا سيُقال عن شاشات اللمس اليمنية: إنها مضرة بالصحة.. وسيقول هواة تزوير الانتخابات أو غول مناقصات الأحبار الانتخابية عن مشروع نظام البصمة الإلكترونية: إنه يهدّد العملية الديمقراطية..!!. المهم أن أعداء التقدُّم العلمي والنهوض لن يعدموا أية وسيلة يواجهون بها الأفكار الشبابية الحالمة التي يعلم الجميع أن مستقبل الوطن مرهون بما لديها من هموم وتطلُّعات لابد من تحويلها إلى شيء واقع. أما القطاع الخاص في بلادنا فقد تعوّد منذ طفولته على التقليد والربح السريع, ولم يتعوّد على الابتكار والاستثمار في الأفكار الغضة, ولو أنه وعى قيمة الأفكار والمخترعات التي يتوصل إليها بعض الشباب لأوقع يده على مجالات مربحة ومشاريع طموحة؛ ولكن ما العمل مع عقلية تجارية يهمها فحسب كم ربحت اليوم، ولا يهمها كم ستضحّي اليوم لتربح غداً. في الأخير أشدُّ على أيدي قيادة جامعة تعز أن تنظر بعين الاهتمام إلى هذه المشروعات الطلابية، وقد قرأت أن الأستاذ الدكتور محمد سعيد الشعيبي، رئيس الجامعة اطّلع على هذه المشروعات.. إنني آمل أن توجد البرامج والخطط والتصورات التي تمكّنها بعد ذلك من التواصل مع السلطات العليا لبحث كيفية التعامل الصحيح مع هذه المشروعات ودعم تنميتها بالتعاون مع القطاع الخاص الذي يحتاج إلى من يشجّعه في هذا المجال ليحقق الإسهام الفعلي في التنمية الصناعية الحقيقية في هذ البلد.. ولست بحاجة إلى تأكيد أن إنجازًا مثل هذا لو جرى تحقيقه يعدُّ في صميم إنهاض مستوى التعليم العالي في اليمن، وسيكون إحدى نقلاته النوعية. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك