سأحدثك عن صديق أكمل مرحلة دراسته الثانوية في القرية.. وحصل على معدل 85 %.. لكنه لم يفرح لذلك ولم يحزن، جلس صديقي أسامة في نفس اليوم واحتفل مع أفراد عائلته بالمناسبة في جلسة مقيل موسّعة. قبل المغرب بدقائق تذكر الأب وسأل ابنه أسامة عن مجال رغبته في استكمال دراسته الجامعية، تفاجأ أسامة بالسؤال، لم يذهب بعيداً، تذكّر للتو أن ابن عمته عبدالحكيم التحق بعد الثانوية ويدرس في كلية الإعلام، وبعد شرود أسامة الطويل في التفكير رد على أبيه: ما رأيك بالإعلام مثل عبد الله بن عمتي؟. على الفور أغمض الوالد عينيه وتخيّل ولده أسامة وهو يقرأ نشرة الأخبار في التلفزيون إلى جانب ولد عمته عبد الحكيم، أم أسامة رفعت يدها للتصويت.. موافقة.. جميع العائلة صوتت بالمثل أيضاً. حمل أسامة أدواته.. استعداداً للتسجيل في الجامعة.. استقبله عبدالحكيم.. كانت أمه قد أعدت له كيساً من الكعك.. اجتاز أسامة اختبار القبول.. لكنه لم يجتز أصوات العصافير في سطح قاعات الهناجر الزنجية الدراسية من سنته الجامعية الأولى. مرت الأيام.. أصبح عبدالحكيم مراسلاً لإحدى القنوات الخارجية وهو في المستوى الرابع.. أسامة بالمقابل يفتش عن نفسه دون أن يعرف ماذا يريد بالتحديد؟ وأين هو؟، ولماذا جاء إلى هنا؟، كل ما يتذكره جيداً هو أنه قد تورط في اختيار المجال عندما تحدث إلى أبيه. عبدالحكيم اكتشف نفسه باكرا،ً لأنه تشبع برغبته الجامحة، وهوايته لأن يصبح صحفياً وإعلامياً.. بينما تأثر أسامة بالجينات الوراثية وجاء عن طريق الخطأ إلى المكان الذي أصبح يصيبه بالإحباط كل يوم. مرت الأيام.. عبد الحكيم يجهز مشروع التخرج.. أسامة مشغول باختبارات المستوى الثاني من دراسته.. والتخلص من تراكمات المواد المتبقية عليه من المستويات الأولى. يُقدم أسامة على خطوة اختيار التخصص «إذاعة – صحافة - علاقات» تأخذه الجينات بالوراثة كالعادة ويتبع رغبة عبد الحكيم في مجال الإذاعة.. في الواقع ليس لأسامة أية علاقة بالإذاعة وربما بكلية الإعلام من الأصل. كل يوم يشعر أسامة بمزيد من الحيرة والإحباط.. لم يكتشف نفسه بعد، لا يوجد أي شيء بداخله يدفعه إلى القفز على طريقة ولد عمته عبد الحكيم. في الاختبارات النهائية الأخيرة طلب منه الدكتور أن يكتب مقالاً صحفياً.. فكتب جزءاً من حكايته هذه التي أكتبها لك الآن.. مع الأسف لقد صرعنا أسامة في سياق حديثه أنه قرر التحويل إلى كلية الحاسوب ومغادرة كلية الإعلام.. لكي يحافظ على ما تبقى من معنوياته، والد أسامة وأمه المسكينة لم تفرح بعد برؤية ولدها في التلفاز، وتتفاخر به بين نسوة القرية.. بيئة الدراسة في الكلية وأدواتها القديمة لم تساعده أيضاً في تطوير مهاراته. مشكلة كارثية أن يجد آلاف الشباب اليمني أنفسهم خارج أسوار طموحاتهم ورغباتهم في دراسة التخصصات التي يريدونها هم وليس أحد غيرهم.. الأعظم كارثية هو أن لا يساعد الشباب أنفسهم في تحديد ورسم رغباتهم منذ الوهلة الأولى والعمل على تنميتها وتطويرها باستمرار. سأحدثك أخيراً من باب المقاربة عن كلية الإعلام بجامعة القاهرة.. معدل القبول فيها من90-95 % وما فوق.. ومن لم يحالفه الحظ والقبول في الإعلام يفكر بدراسة الطب أو الهندسة بعدها. في جامعة صنعاء معدل القبول 75 % ومن جاء إليها من الكليات الأخرى دون أن يسالفه الحظ بالقبول لا يرد إطلاقاً. نحتاج إلى إعادة هيكلة المفاهيم والرغبات وقراءة أفكارنا.. بعدها ربما تقدر أن تحدثني عن أداء الإعلام في بلادنا إن كانت هذه حالتنا.. كما لاتنسى أن تردد أخيراً المثل الشعبي بالمناسبة: «على قدر طول وعرض هناجر كلية الإعلام الزنجية مدّد ثم مدّد ولا تبالي». [email protected]