من أخطر قواعد السياسة، إنها لا تعرف الثوابت المطلقة. فالسلطة والمال والسلاح، عناصر إن تجمعت على مبدأ اللعب حسب المصالح تحول ساحة الوطن إلى حلبة مراهنات على عقيدة التناحر والدمار. وفي هذه المرحلة واليمن تدخل إلى مشروعها السياسي القادم، التقسيم إلى أقاليم وبعد نهاية الحوار الوطني تظل قضية استقرار الأمن في البلاد هي المحور الأخطر والأهم، فمنع تصاعد أصوات الانفجارات تصبح مخرجات الحوار مثل رجع الصدى، فالدولة الساعية إلى رسم حدود الأقاليم قبل أن ترسم حضورها الأمني على الواقع لا يمكن لها المراهنة على مشروع سياسي المقدرة الكبرى فيه وهي «الأمن» مفقودة. فالسلاح لو ظل هو لغة المواجهة عند كل طرف مخالف في الرأي تصبح حدود الأقاليم خطوط مواجهة جديدة. فالإقليم الذي يخرج عن الدولة المركزية دون إدراك لمعنى قيامه، سوف يصبح حالة سياسية غير مستقرة وربما تخرج نهائياً عن مسار ما وجدت من أجله. والشيء الموجع في تاريخ اليمن السياسي الحديث، هو غياب الدولة كقيادة وحضورها كسلطة، وهناك فرق بين وعي المجتمع المدني وإرهاب الدولة. ما يطرح علينا من تساؤلات في هذا الجانب يجعل الرد من صعوبات الأزمات التي تمر بها اليمن دون حلول حتى تحولت إلى تراكمات مرعبة هي في الحاضر أكبر من النوايا الطيبة التي تقدم الوعود ولا تجد المخرجات. كيف يمكن لدويلات الأقاليم إسقاط مراهنات القبيلة والمال والسلاح من واقع لا يجد قوته إلا في هذا التجمع الذي يؤسس كيانه وفرض وجوده عند كل الأطراف فالمركزية في اليمن ليست هي السبب الأوحد للأزمة، ولكن عدم قيامها كقوة قانونية وهيئات مجتمع مدني في معظم البلاد، عزز ضعف القيادة عند الفرد وجعل من حضور القبيلة والسلاح السند الذي يعود إليه المواطن في أزماته. وهذا ما يجعل من قضية الأقاليم مسألة في غاية الخطورة، إن رسمها الحدود قبل بناء مرتكزات الدويلة التي سوف تعمل على قيادة هذا الإقليم الخارج من وضع ممزق غير مستقر، فكيف الحال إن حدث خلاف بين إقليم وآخر. وهل ما يجري في البلاد من عمليات اغتيال لقيادات وضباط وجنود يفزع اليمن في عصر الأقاليم من مشروع الجيش الواحد لندخل عصر جيوش الأقاليم.إن حسابات السياسة لا تأتي دائماً مع دائرة الصراع السلطوي ومن يظن أن السياسة هي الحكم يربط في وضعية العجز لمعنى إدارة الدولة والشعب وكل مراهنة على الحكم المطلق هي دخول البلد في حقب من الصراعات. نصف قرن من الزمان واليمن الجمهوري لم تنجز مشروعها السياسي ولا مشروعها الاقتصادي فكيف لها الدخول في حقبة الأقاليم على طلب المساعدات المالية؟. الدولة الفيدرالية هي في الغرب من إنتاج مراحل من التطور التاريخي والتي وصلت السلطة في الدولة عبارة عن وظيفة المسئول له حدود عليه أن لا يتجاوزها. هنا يأتي دور الفكر السياسي الذي يحدد معنى العلاقة بين السلطة والسياسة. وهذ من المواضيع القائمة في هذا النوع من العلاقات في نظم الأقاليم. ثم علينا قراءة واقع اليمن في الحاضر، بعض المناطق أصبحت خارج سيطرة أجهزة الدولة، حروب متواصلة، مذاهب وأفكار قد تصبح لمشاريع لدويلات قادمة وهنا مكمن الخطر، أن تكون المدن مستودعات سلاح بدلاً من ثقافة المدنية ذلك يعني تمدد قوة الدمار في كل مفاصل الحياة لدنيا. فالسلاح والسياسة لا يلتقي أي طرف منهما إلا في لحظات عجز الحوار عن تأسيس الوطن والمواطن. والدولة في اليمن اليوم، هي في أخطر مراحل المراهنات ما بين الخروج من نظام الدولة الشمولية التي أوجدت عبر حقبها سلطة القمع والدخول إلى عصر الفيدرالية وهي سياسياً إن سارت نحو ما هو مخطط لها سوف تسقط نهائياً مركزية الدولة غير أن الأهم من هذا الشكل الذي سوف يتكون بعد هذا هل سوف توجد كيانات تمتلك القدرة على التعايش مع بعضها أم سوف ترتفع أصوات المطالبة بحق تقرير المصير لكل إقليم. من ينظر في الزوايا الخلفية لهذا العمل سوف يدرك أن الصورة لم تكتمل رؤيتها إلا بعد سنوات، فالمسألة ليست اليمن بل خارطة الشرق الأوسط الجديد ولكن وكما يبدو أن اللعاب الدولي في هذا الجانب يعطي لكل منطقة من حسابات السياسة والمصلحة. وبما أننا في العالم العربي لم نتعلم بعد النفس الطويل في إدارة الصراعات في الداخل والاعتماد على الحماس بدلاً عن الإدراك وهذا هو الفرق بين الدولة المدنية في الغرب والدولة التسلطية في الشرق كل واحد يقف على ميراثه. هناك أيضاً تصدع النظام الإداري في اليمن وهو أكبر مشكلة تواجه مشروع الأقاليم الذي يقوم على الإدارات المستقلة لكل منطقة، وهنا ندخل في صدام مع سلطة المناطقية والسلاح فالعرف الذي أصبح هو القانون في منطق القبيلة ليس من السهل وضع محله قانون الدولة طالما الدولة أضعف من القبيلة. أما السلاح في الوقت الحاضر يبدو أنه خرج من نفوذ القبيلة إلى لعبة الجماعات المسلحة، وهي وضعية أخطر من تجمعات القبائل، فالقبائل إن هي احتكمت إلى العُرف تمتلك القدرة على حصر ساحات المواجهات، أما الجماعات المسلحة هي قوة تدميرية ليس لها من حاكم سوى إدخال البلاد في مزيد من العنف و الخراب. وكم هو خطير في أحوال مثل واقعنا، أن تنزل القبيلة إلى درجة الجماعات المسلحة، حينها تعجز عن استعادة ما غاب من النفوذ والهيبة، لأن السلطة أصبحت في يد من يوجه السلاح حسب مصادر المال. إن اليمن سوف تدخل عصر الأقاليم، فالداخل ظل يراهن على المال والسلاح والسلطة في لعبة تحريك خيوط الصراع، ولكن غابت عنه أن اليمن بعد حرب 1994م ليست هي من ينفرد بصنع التوجيهات الداخلية، فالمساحة والثروات والمصالح غيرت مسارات كثيرة في هذا الموضوع. لذلك نجد من راهن سنوات طويلة على قدرة السلاح في ضرب المخالف، والمال في شراء الضمائر والسلطة في تحويل العجز إلى هيبة قد انقلبت عليهم هذه العوامل لتصبح من أسباب تساقطهم، وذلك ما جعل البعض ينظر إلى الفيدرالية بأنها سياسة سحب البساط من تحت أقدامهم. فالنفوذ الأفراد الذي حكم عبر كل مسافات الحدود الواحدة سوف يحجم إلى مساحة معينة وهو ما يفقد تلك الوسائل أسباب تجبرها على الناس غير أن الحال لا يأخذ من باب التخيل، فالواقع مازال له من قوة التحدي ما يكسر حلم السياسي الجانح. لقد توسعت مساحات الدم في اليمن وكأننا أمام إنتاج نفس الأزمات، التغيير عبر سحق الآخر. ولكن هذه المرة سوف يكون الموت ليس من نصيب الأفراد، إن الموت ليس من نصيب الأفراد، إن ظلت الدولة في حالة مشاهدة لما يجري في كل مكان، لأن هذا القتل المتواصل هو السكين الذي سوف يقسم الأنفس قبل الأرض، لأن حدود الأقاليم في حينها سوف تصبح خنادق حروب بدلاً من طرقات سير رغم كل ما قيل عن الحوار، يظل هو حالة مرهونة في قدرة التنفيذ، لأن حوار القاعات غير تحديات الواقع، ربما تكون الكلمات في حالات قوية المعاني ولكنها عند الفعل ندرك كم هي خاضعة لقهر المفروض عليها، وهذا الوضع ربما يدخل البلاد في مراحل من الرفض ويعطي لكل من يراهن على لعبة المال والسلاح العودة للمشهد السياسي ليس فقط لإعلان الحضور ولكن لطرد مشروع الدولة من الواجهة وهو ما يعصف بكل الجهود ويدفع بها في محرقة صراع المصالح. مازلنا حتى الآن لم ندرك ما هي السلطة ولم يخرج مستوى فهمنا لها من منطق الولاءات، وهذا ما جعلنا نصارع لحقب من أجل الوصول إلى الحكم، ولم ندرك أن أساليب الصراعات هي من أوجد هذه الدرجات من التدني في الوعي، فالصراعات لا ترفع مستويات الأمم بل تذهب بها إلى مزالق من التدمير ويبدو أن علي اليمن إيجاد عقل يفكر بعيداً عن البندق والقنبلة، إن كان يسعى نحو مرتبة مغايرة لما هو محصور بها فالمرحلة القادمة تطرح حساباتها السياسية أسرع من مفاوضات غرف الاجتماعات، فالدولة الساعية إلى الخروج من هذا النفق، فهناك من يرى في استمرارية الحالة فرصة لحقن الوريد اليمني بمزيد من السموم، فهو يعمل على سقوط البلاد وتحويلها إلى قطع متناحرة بل لعبة المال والسلاح وعقليات مثل هذه لها من خبرة الموت والحروب أكثر مما لديها من مقدرة على قبول رأي أو حوار مع الطرف المخالف. ندرك أن صوت الانفجارات ليس من السهل إيقافه في الحاضر، لأن جزءاً من صراعات وأزمات ظلت ترحّل عبر مراحل فهو جانب من التحدي على كسر الدولة بل ضرب السكينة العامة في عمق نفسية المواطن. ولكن مراهنات مثل هذه لا تصنع دولة وسياسة، قد تخلق الفوضى لبعض الوقت، ولكنها لا تستمر، لأن صورة الدم والموت لا تهب الحياة.