- التأمل عبادة وإبداع ؛ وعامل محوري لصالح الإنسان ؛ بل هو أحد «ترمومترات» منسوب الإنسانية لديك، فالإنسانية – حسب بعض الفلاسفة - ليست مرتبة واحدة بل درجات متفاوتة ؛ فقد يكون شخص ما « إنساناً » أكثر من شخص آخر ؛ وأحد المعايير الأساسية لرصيدك من الإنسانية هو ممارستك لرياضة التأمل بأداتيها معاً ؛ العقل والروح. أنشتاين صنع ذلك ؛ فكان يقول: عرفت الله من خلال المعادلات الرياضية كما عرفته من خلال الفن. وبعض حلول معادلاته أُلهِمها في المنام، ومعروف أيضاً عن الخليل بن أحمد الفراهيدي أن بعض أوزان بحوره الشعرية رآها رؤيا في منامه . «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً » . أما كانط فكان يقول: «شيئان ما انفكا يثيران في نفسي الخوف والاحترام ؛ السماء المرصعة بالنجوم فوقي، والقانون الأخلاقي ضميري». - أحياناً تقرأ لمؤلف كبير فلا يؤثر فيك إلا قليلا ؛ قد يضيف معلومات كثيرة أو قليلة لكنه لا يثير ذهنك بالأسئلة ؛ ولا يشغل روحك بالمُتع والأخيلَة. والبعض تقرأ له الصفحات المعدودة أو السطور المحدودة فتنسى العالم من حولك ؛ وتود لو خلَت الدنيا إلا منك والكتاب. وهذا هو الفرق بين المؤلف النقّالة «أو البحاثة» والمؤلف المفكر أو المؤلف الفيلسوف أو الأديب الملهَم الملهِم أو الفنان الإنسان. - أوقات العمل والانشغال تملكنا ولا نملكها – حسب العقاد – لذا فهو يمجد أوقات الفراغ فهي الوحيدة التي نملكها حقاً ؛ وهي أوقات تأمل بالنسبة إليه ، ويجزم أننا لا نستفيد من المعارف التي نكتسبها من الكتب والتجارب إلا بقدر ما نضيف إليها من تأمل. ويسمي آنشتاين الذين يقرأون كثيراً ويتأملون قليلاً الكسالى العقليين ؛ لهذا ربما نقول نحن عن الذي يقرأ كثيراً بدون إعمال عقله وروحه فيما يقرأ «فأر كتب»! - هناك عظماء ونُبغاء فُرض عليهم نوع من العزلة فرضاً لا اختياراً ؛ فكانت لهم نعمة من حيث حسبها الكثيرون نقمة؛ يستحضرني هنا رهين المحبسين أبو العلاء المعري وابن الرومي وأميرالشعراء - بالنسبة لي - البردوني وطه حسين ؛ لعل إصابتهم بالعمى ساهمت في سمو خيالهم وتفتق مداركهم ؛ وقد يكون للصمم دور صغير أو كبير في إبداعات بتهوفن والرافعي وفي تكوين ملكاتهم النفسية والعقلية. الموضوع يحتاج إلى مزيد تأمل ؛ لكن صاحب كتاب «طفولة قلب» يسرد - بلغة الغائب – بعضاً من ذكريات السنوات الخمس التي سُجن فيها بسبب بعض آرائه السياسية: أكثر من مائة وثمانين ألف يوم هو مدين لها بقدر معين لقيم وأخلاقيات تعلمها من دروس الحياة حين قابلها وجهاً لوجه بعيداً عن تحليلات الآخرين وإملاءاتهم وضغوطهم.. صار معتمداً على نفسه في قراءة الأشياء وفهمها والتعاطي معها ؛ هو مدين لتلك الأيام بالأثر المعرفي الناتج عن قراءات فاحصة ومنوعة لألوان المعارف والعلوم قديمها وحديثها؛ والذي فتحه على اهتمامات ورؤى ومفهومات جديدة لم تكن دراسته النظامية ولا قراءته المتخصصة لتوصله إليها.. هو مدين لها بتخففه من الأثر الشخصي للمعلمين ؛ والسماح لقدراته الذاتية أن تظهر وأن تساهم في تكوينه الأخلاقي والمعرفي والفكري؛ أصبح يمتلك قدراً من الشجاعة ليتحدث عن رؤيته الخاصة واجتهاده الشخصي المعبر عن ذاته بما فيها من خطأ وصواب وفشل ونجاح وضعف وقوة؛ تعلّم كيف يتخلص من الأبهة ورؤية الذات ؛ وكيف يتجرع بعض المواقف التي تبدو أحياناً وكأنها مساس بالكرامة.. كثيراً ما يسأل نفسه: لولم يخض هذه الدورة القسرية هل كان سيكون شيئاً آخر؟ يغلب على ظنه أنه سينكسر لضغوط ألفها واستسلم لها تقيد حركته وتلجم تفكيره ...» . وابن تيمية يقول عن سنوات سجنه في القلعة: « لو بذلت ملء القلعة ذهباً لما جازيتهم على ما تسببوا لي فيه من النعيم»!. - التأمل فصل من أهم فصول سِفر العظمة والريادة؛ يشهد بذلك تاريخ النبوات – عظًمتهم غير منكورة حتى من اللا دينيين - من لدن أبيهم إبراهيم «فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً ..» , إلى خاتمهم الذي بدأ برعي الأغنام ثم عرج على الغار يتأمل وحيداً في ليالٍ مشهودة من حياته.. مروراً بموسى «وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر» عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام. كما أنه الخطوة الأولى في رحلة التحولات الكبرى للأفراد والمجتمعات ؛ فالمتفق عليه أن العمل فرع عن التصور - الذي هو في نهاية المطاف نوع من التأمل - والتنظير يسبق الفعل، والثقافة تسبق السياسة، والرؤية النقدية - واعية كانت أو لا واعية - تسبق التغيير .. عبد الوهاب المسيري وروجيه جارودي مثالاً على مستوى الأفراد ؛ وثورات الربيع العربي مثالاً نوعياً على مستوى المجتمعات والشعوب. - لا يمكن للإنسان أن يعبد ويبدع ويبتدع؛ أن يتغير ويغير بدون تأمل ؛ ولن أعدو الحقيقة إن قلت أنه لا يمكنه حتى أن يكون إنساناً؛ وربما هذا ما قصدته الآية القرآنية : «أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ؛ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا».. فتأمل!