هل هو منطق الصراعات الدولية على المنطقة ما جعلها من أكثر المراكز فقداناً للاستقرار على مدار حقب عديدة من القرن الماضي؟ وحتى الآن تبدو منطقة الشرق الأوسط، المكان المتصدع والرمال التي لا تعرف حدود الثبات، فالراهن يظهر لكل من أدرك قراءة الجغرافيا السياسية لوضع المنطقة، أن القادم هو فوق مستوانا لو ظلت عقلياتنا تقرأ العمل السياسي عند درجة المصلحة في السلطة، وبما يكون القادم تدميراً لكرسي السلطة والذي لم يعد يملك قوائم الصمود. ومن قراءة الراهن، هل تعود روسيا إلى قناة السويس؟ وكأن التاريخ لا يذهب بعيداً عن حرب العدوان 1956م ونكسة 1967م وحرب العبور 1973م ،فالجغرافيا لا تتحرك ولكن صراع المصالح هو من يعيد لهذا الموقع وجهة المشهد العسكري. والعراق الذي أصبح مناطق متناحرة، هو اليوم نموذج لمعنى تمزيق الشعوب وضرب هويتها، وساحات الرهان فيها على السلاح والموت هما الانتماء المكتسب لفرض سياسة الدمار، وهنا يسقط كل شيء ليصبح ضد ذاته كلما توسعت عوامل التمزق، فالقتل ضد الآخر مثله مع النفس، وطالما الموت لا يعرف له هوية، يظل الراهن على إلغاء الغير من حسابات الخراب عند كل الأطراف. أما ليبيا فلا يقل فيها عمق الجرح النازف عن غيرها من دول الشرق المحترقة، فهي صراع على دويلات، ومناطقية إن حكمت المشهد العام، نعود إلى ما طُرح في فترة الحرب العالمية الثانية، أن تقسم إلى ثلاث دويلات، غير أن حصاد الدم في الحاضر ربما كان أكبر بفعل هيمنة القطب الواحد. وسوريا حالة الموت اليومي والدمار المرعب، مقابل أن تصبح مقسمة لا تعرف من حقوق الانتساب إلا لمن جعل من سلاحه هوية المكان، وتصدّر المذهبية والسلاح والمناطقية لفرض الواقع السياسي، يعني شعباً ليس له قومية، وتلك خصائص خبرتها دول كبرى أدركت أن الشرق الأوسط فيه من أسباب التناحر والانقسام على الأرضية التي تقف عليها كل الأطراف، وما على الآخر سوى إحداث هزة حتى تظهر كل التشققات والانهيارات. وربما يكمن خطر الصراعات في الراهن، في صعود المذاهب وتصدرها للمشهد السياسي إلى جانب المناطقية والقبلية والهويات الفردية، وهذا يدل على تساقط لمعنى الاتحاد بينها، بعد عقود من حكم الحزب الواحد والزعيم الأوحد، حيث اختزلت كل مقدرات الأمة في الفرد التابع لهذه العشيرة أو تلك. هذا الوضع يدل على أن مسألة الانتماء للوطن لم تعد داخلة ضمن المشروع السياسي الجديد، وكأن دولة الحكم الشمولي دمرت معنى الانتماء عند الفرد لشيء إسمه الوطن. هذه قضية ليست من السهل التردد عند الحديث عنها فهذا التفكك في الدولة العربية الحالية، بداية الدخول إلى مرحلة إسقاط هذه الدول شعوباً مع أنظمة، وتحويلها إلى فئات متناحرة على جزئيات هو مثل الجراثيم التي تحرق الجسد بالأمراض المعدية والقاتلة، ولعل المذهبية هي أخطر ما يوسع دائرة النزيف القاتل، لأنها منطلقة من الحق المقدس. ولكن كيف لشعوب تدرك أن اللعب على مثل هذه الألغام النائمة تحت جلدها، المدركة تماماً أن المراهنة عليها، هي حصاد الموت، أكثر مما هي طريق إلى الانفراد بالغنيمة؟ علينا الاتجاه إلى قراءة الرسم البياني لعقليات مثل هذه تسعى إلى بسط نفوذها القاهر على خطوط أهداف ومصالح الصراع السياسي. إن حالات مثل هذه هي وليدة مجتمعها، ولكنها عندما تتخطى حدود ذاتها، تطمح إلى صدارة المشهد، وهذا لا يعني الحضور القيادي مع الغير، بل الاستحواذ على القيادة، وهي تدخلها من باب القداسة والانفراد ويصبح ما دونها حراماً وممنوعاً وعيباً، ذلك المثلث الذي يصادر حق الأمة في المشاركة، وعلى قاعدة مثل هذه تؤسس سلطة قمعية جديدة، فهي تخرج من صلب نظام مأزوم مع نفسه لتطرح نفسها بديلاً ولكن عند نفس الدرجة في اختناق الأنفاس. ذلك ما بدأ يتصدر الحال في المنطقة العربية، فردية تطالب بوضع وطن، مذهبية تحولت إلى حق مشروع في قتال الآخر، تدني العمل السياسي إلى أفقر مستويات التصارع والخيانة حتى مع رفاق الزمن القريب، وحالات مثل هذه كيف لا تجعل من الغير يسعى لفرض مشاريعه على المنطقة؟ إن أخطر ما يدمر الأوطان هو فقدان المواطن لمعنى الانتماء لهذا الوطن. هنا تصبح المسألة مجرد ولاءات ومتاجرة والسابق نحو المال السياسي الذي تسقط تحت حقائبه كل معاني الإخلاص والاحترام لشيء اسمه الوطن. ولعبة المال السياسي في إدارة الصراعات، هي من يدخل قضايا الشعوب في مراهنات لا تخرج منها إلا لتدخل في أزمات جديدة، فهي تعمل على إطالة زمن التناحر، ولكن لم تأتِ بالحلول، وعندما يدخل مال الولاءات السياسية تصبح قضايا الأمة مصدر تكسب لمن يلعب على توسيع خطوط المواجهة، وكلما طالت فترات الأزمة يغزو عمق القضية التراجع ونفي الآخر، وبما تذهب الأمور إلى حالة من التناحر داخل الفرقة الواحدة، لأن هناك انقسامات على هذا المال، وهنا لا يكون أي فرق بين تاجر الشنطة، وبين قادة هذا الفريق أو تلك الفصيلة، فالمال هو سيد الموقف، وقضية سياسية تحركها أموال الحقائب هي أكبر خديعة يقع فيها أي شعب، فيها تتجزأ الالتزامات، وتتصادم الأهداف، وتظهر أكثر من قيادة تسعى لوضع ذاتها أمام الشعب بأنها هي القيادة المطلقة، وكلما طالت مراحل التصارع في هذا الجانب فقدت هذه القضية كل معاني اهدافها وإنسانيتها، وتصبح مظاهر الخلافات والانقسامات بين قادتها من أوليات خطابها السياسي، فهي تذهب في هذه المتاهات أكثر مما تعمل على استعادة حق شعبها، وتلك قيادات حصدت منها الشعوب النكبات وخيبة الأمل، فهي مرهونة لمن يدفع، وذلك يجعل مسارها مربوطاً مع مصالح ذلك البنك، الذي هو إدارة سياسية تعمل على تنفيذ برامج عملها في هذا الاتجاه، لذلك لا نجاح ولا حرية لقضية وشعب طالما ومسئوليه يعملون في خدمة المال السياسي، لأن شراء الضمائر في السياسة مثل توزيع السلاح على أبناء الشعب الواحد كي يقتل كل فرد منها أخاه تحت شعار: نحن أصحاب الحق. هل للرمال المتحركة من حدود؟ هذا هو حال الوضع السياسي في الشرق الأوسط، ما زالت ملامح المرحلة غير واضحة لأن المشاريع التي تغير مسارات الشعوب لا تظهر صورها الواضحة منذ البدايات، ربما احتاج العقل لفترات زمنية قادمة حتى يمتلك القدرة على معرفة أبعاد الأحداث التي هي تتشكل مع ارتفاع مستويات التصارع. عندما ينظر الفرد لما ذهبت فيه المذاهب والمناطق وحتى الثقافات الشعبية في خدمة الهدف السياسي، تتجزأ ذاتية الفرد وربما يُصاب بحالة من التناحر الداخلي فهو فرد خارج الجمع، وربما يصبح خارج التاريخ، وقد دلت عدة أحداث على سقوط مشاريع الفردية لأنها لم تكن تمتلك لها دعائم في المجتمع، فهي حبيسة أفرادها فلا ترى من الحياة غير ملامح من الصورة، عند حدود أطراف أقدامها، إن هي تخطت ذاتها أدركت كم هي عارية لأنها حاجة ناقصة درجة التجانس لديها لا تكون إلا بالعودة إلى الجمع. هنا نجد أنفسنا مع حسابات التاريخ التي لا تدركها حسابات الفردية، وربما تصبح السياسة دون وعي لو تجاهلت منزلة التاريخ في قيادة مصير الأمة. ربما كانت حالة تجاهل التاريخ من أسباب استعادة لنفس الأزمات في العمل السياسي، وهذا هو جوهر عجز القيادة عن طرح الجديد، فهي ترى في وسائل عملها مستويات من الخبرة، ولكن هي أدوات مفلسة تردد نفس الأحجام والمقاييس من إدارة القيادة، وكأنها جثة في ثلاجة الأموات. يبدو أن حالة الشرق الأوسط عبر السنوات القادمة لن تعرف السكون السياسي طالما ظلت مشاريع دويلات ومناطق ومذاهب، فهي لا تخرج إلى الوجود إلا عبر حقب من التناحر، وهو ما يسقط إنسان هذه المنطقة في مزيد التمزق، والأخطر في هذا، على أي المبادئ والأخلاق تتكون نفسية الأجيال القادمة؟ هل تلك معادلة خرجت من حسابات الصراع؟ إن عوامل التناحر والانقسامات لا توجد في النفس سوى رغبات الانتقام والحقد، لأن عقيدة السلاح والدم لا تعلم الفضيلة وتربي الأجيال على حب العمل واحترام السلام، فالموت القادم من أعماق النفس والحقد المحرق في العقل يصبح هو المذهب الذي يجعل من الأجيال النار المدمرة لعلاقة الذات مع الغير. وقد شاهدنا في عدة دول كيف يحمل الأطفال السلاح لتصبح الجريمة هي عقيدتهم وكل من وقف أمامهم هو عدو، وكم هي مستويات الدم عندما ترتفع في القلب والشعور، لتصبح الحياة هي الموت، فالقتل يعني توسع شهوة الدم وكلما احترقت المنازل وقُتل الناس، زاد جنون الخراب والرغبة في تحويل الموت إلى لعبة مع الشيطان، فلا فرق بين قتل الوطن أو المواطن فالكل قد دفع ثمنه كي يغيب من هذا الوجود، حتى ذلك الفرد الذي يحمل سلاح الموت ما هو إلى لعبة تحركها مصالح، إن مات لا خسارة، وإن عاش يصبح كومة من رماد الحروب، لأن الأيادي التي تقتل وتحرق هي مشلولة أمام العمل والبناء، لأن المسافة بين الدمار ومعاني الحياة قد توسعت ولم تعد قادرة على تجاوز تلك الهوة، فهي في أخدود من النار لا تعرف فيه برداً وسلاماً. ربما الفترات القادمة تفرز قراءات أخرى لما يجري في الشرق الأوسط، لأننا سوف نشهد مزيداً من التصدع والانفجارات، مما يعزز عدداً من الأفكار والقناعات حول الاعتماد على المذاهب والمناطق والقبائل في رفد صراعات المنطقة، لأن القوى الدولية وعبر تعاملها معنا أصبح لديها معرفة واسعة بطرق المعاملة مع الشرق، فالغرب كقوة ما بين الاستعمار القديم والجديد، قد رسمت حدود المسافة الفاصلة بيننا وبينهم، هناك مراكز الهيمنة والقيادة، بل صناعة القرار والتحكم بالمصير، بينما هنا تراكمات من القمع والقهر وتسويق الأوهام للناس. وهذا هو الفرق ما بين الدولة في الغرب وهي إدارة مؤسسات، وبين السلطة في الشرق وهي أداة قمع وقهر طبقي في يد من يحكم، فالدمار القادم إلينا، هو ناتج عن ضعف في كيان الأمة من الداخل، وما تراكم من قهر السلطة على نفسية الفرد والمجتمع، لذلك تصبح المتاجرة في مصائر الأوطان والشعوب من خصائص اللعب السياسي عند القيادة سواء في الدولة أو عند الأحزاب طالما الولاءات لا تتبع مصالح الأمة، بل الارتهان للغير ولمن يدفع أكثر، ومن هنا ندرك أن الرمال المتحركة في سياسة الشرق الأوسط ليست لها حدود تقف عندها، ومن هنا يصبح من الصعب تحديد نقطة الارتكاز عند هدف محدد.